الوشاح الأحمر.
أسطورة الوشاح الأحمر.
لم تكن مايا من النوع الذي يؤمن بالأساطير. تضحك حين تسمع صديقاتها يحكين عن قصص اليابانيين الغريبة، عن الأرواح التي تظهر ليلًا، عن النساء اللواتي يسألن سؤالًا واحدًا قبل أن يقررن مصيرك. بالنسبة لها، كل تلك القصص مجرد طريقة لقتل الوقت، شيء لا يعود عليك بأي فائدة سوى رعشة صغيرة في منتصف الليل.
لكن الغريب أن تلك الليلة بالذات، بينما كانت تمشي وحدها في الطريق المختصر المؤدي إلى شقتها، كانت تشعر أن شيئًا ما يتحرك خلفها. ليس إنسانًا، ولا ظلًا واضحًا، بل إحساسًا… إحساسًا يشبه أن شخصًا يتنفس بالقرب من رقبتها رغم أن الشارع كان خاليًا تمامًا. الهواء كان صامتًا بطريقة مزعجة، والمدينة التي كانت دائمًا مليئة بالأضواء بدت في تلك اللحظات وكأنها قرية نائمة فقدت نبضها فجأة.
لم يكون مُجرد لقاء.

سحبت حقيبتها إلى صدرها، ليس خوفًا من لص، بل من شعور غير مفهوم بدأ يلتف حول عقلها. قالت لنفسها إن كل شيء طبيعي، وإن هذا الطريق مشتهَر بأنه ضيق وقليل الإضاءة، وإنها اختارته لأنّه أسرع، لا أكثر. لكنها لم تستطع تجاهل الصوت الذي سمعته فجأة… صوت خفيف يشبه سحب قطعة قماش على الأرض.
تجمدت مكانها رغمًا عنها، حاولت أن تقنع نفسها بأن الصوت مجرد ورقة تتحرك مع الريح، أو قطة عابرة، لكن الصوت كان ناعمًا جدًا، منتظمًا جدًا، كأنه نابع من مشهد سينمائي بطيء. وعندما التفتت، رأت ما جعل نبضها يتوقف لثانية كاملة.
امرأة… امرأة تقف في الطرف الآخر من الشارع، لا تتحرك، لا تتنفس، بالكاد تُرى ملامح وجهها. لكن الشيء الوحيد الذي ظهر بوضوح هو الوشاح الأحمر الذي كان ينسدل من كتفيها حتى الأرض، طويلًا إلى درجة أن طرفه كان يلامس الرصيف وكأنه جزء حي من جسدها. لون الوشاح لم يكن أحمر عاديًا… كان أحمرًا داكنًا، كأنه مشربٌ بذكريات بعيدة لا تخص هذا العالم.
لم تعرف مايا هل يجب أن تصرخ أو تهرب أو تتقدم خطوة. كل ما فعلته هو الوقوف كأن الأرض أمسكت قدميها بقوة لا تُرى.
اقتربت المرأة… خطوة تلو أخرى، بطريقة بطيئة جدًا، لكن الوشاح كان يتحرك أسرع منها، وكأنه يزحف قبلها. اقترب حتى صار على بعد مترين منها.
الوشاح الأحمر أسطورة أم ماذا؟
قالت المرأة بصوت كان ناعمًا لدرجة مريبة: هل يناسبني الأحمر؟الكلمات صارت سكاكين صغيرة تطرق عقل مايا. تعرف هذه الجملة… سمعَتها قبلًا في الجامعة عندما حكوا عن أسطورة فتاة الوشاح الأحمر التي تسأل ضحيتها سؤالًا مصيريًا. لكن مايا لم تفكر يومًا أنها ستسمعه في الحقيقة، في شارع ضيق، في لحظة كهذه.
حاولت أن تتنفس. لكن صدرها لم يتحرك. بدا وكأن الهواء نفسه رفض الدخول إلى رئتيها.
قالت بصعوبة: أ… أظن… نعم.
ابتسمت المرأة، ابتسامة لم تكن لطيفة ولا مخيفة، بل ابتسامة فارغة من أي شعور، كأنها حركة عضلات بلا روح. اقتربت خطوة أخرى، فاضطرت مايا للتراجع، لكن الجدران خلفها اقتربت هي أيضًا فجأة، وكأن الشارع ضاق متعمدًا ليمنعها من الهرب.
قالت المرأة وهي ترفع طرف الوشاح بإصبع واحد: أليس غريبًا… أن البشر يختارون دائمًا الإجابة الخاطئة؟
شعرت مايا أن الدم يتجمد في عروقها. لم تعرف هل عليها الركض أو الانتظار أو الصراخ. لكن صوتًا خافتًا بدأ يملأ أذنها، لم يكن صوت المرأة، بل صوت طفلة صغيرة… صوت مألوف حد الألم.
لماذا تركتِني؟ لماذا نسيتِني؟
وضعت مايا يدها على أذنها، ظنت أنها تهذي، لكن الصوت كان واضحًا… واضحًا لدرجة أنه هز قلبها. أدركت فجأة أن الصوت ليس من الخارج، بل من داخل رأسها. وبدلًا من أن تبتعد المرأة، بدا الوشاح نفسه يتحرك… يلتف حول ساق مايا دون أن يلمسها، كأنه مجرد ظل أحمر يشير إلى مكان قدميها.
قالت المرأة: أنتِ لا تخافين مني. أنتِ تخافين مما تعودتِ الهرب منه.
مايا تهتز، وكأن الكلمات أصابت الجرح الذي كانت تخفيه لسنوات.
العقدة التي لم تستطع فكها.
الذكرى التي طمرتها تحت ألف انشغال.
الطفلة التي رفضت مواجهتها.
همست مايا بصوت مكسور: ماذا تريدين؟
رفعت المرأة الوشاح، وكأنه يمسح الهواء حول وجه مايا دون أن يلمسها فعلًا، ثم قالت:
لا آخذ الأرواح… أنا أعيدها إلى أصحابها.
في تلك اللحظة، وكأن بابًا فُتح داخل عقل مايا، بابًا انفجرت منه الذكريات التي حاولت طوال حياتها أن تنساها. ذكريات طفولتها، لحظة فقدٍ موجع، خطأ قديم، يوم حاولت أن تكون قوية فاختارت أن تُدفن مشاعرها بدل مواجهتها. كان الألم قديمًا، لكنه عندما خرج الآن… خرج دفعة واحدة كأنه يحدث لأول مرة.
سقطت مايا على ركبتيها تبكي كما لم تبكِ منذ سنوات.
المرأة لم تقترب، لم تتكلم، فقط وقفت تراقبها وكأنها تعرف أن اللحظة ليست لحظة عذاب… بل تحرر.
لم تَعُد مايا تسمع صوت الطفلة يلومها، بل سمعته يبكي ثم يهدأ، ثم يختفي.
وعندما رفعت رأسها، اختفى كل شيء.
لا امرأة.
لا وشاح.
لا صوت.
لا ظل.
الشارع عاد كما كان: ضيقًا، باردًا، لكنه عادي.
وقفت مايا بصعوبة، تمسح دموعها وهي تعجز عن استيعاب ما حدث. هل كان حلمًا؟ هل كان هلوسة؟ هل كان شبحًا؟ لم تجد إجابة. لكنها لاحظت شيئًا صغيرًا عند قدميها… خيط أحمر رفيع، رقيق، كأن أحدهم تركه لها عمدًا.
انحنت، أخذته، وشدت عليه بين أصابعها. لم يكن مجرد خيط، كان يبدو وكأن له حرارة خفيفة، كأنه احتفظ ببقايا روح.
همست لنفسها: إذا كانت الأساطير حقيقية، فهي ليست دائمًا هنا لتؤذينا.
عادت إلى بيتها تلك الليلة مختلفة، تشعر أن وزنًا قد سقط من داخلها دون أن تفهم كيف. لم تجرؤ أن تروي ما حصل لأحد، ليس لأنها خائفة من أن يسخروا منها بل لأنها لم ترغب أن يلوث أحد تلك التجربة بالمنطق.
وبقي الخيط الأحمر على مكتبها، لا يتحرك، لا يصدر ضوءًا، لكنه كان يكفي ليذكرها دائمًا أن بعض الأشياء لا تختفي، بل تعود عندما يحين وقت مواجهتها.
وفي الليالي التي كانت تشعر فيها بالوحدة، كانت تلتفت إلى الخيط وتتساءل:
هل اختفت المرأة حقًا؟
أم أنها… فقط تنتظر من جديد؟
لقراءة الكاتب الذي ابتلعه الذكاء الاصطناعي من هنا
لقراءة رواية شيفت مسائي تجربة الموت من هنا


