كان الصباح كعادته يعلن عن قدومه بطريقة مستفزة، عبر صوت المنبّه الذي لا يرحم، لكن نازلي؟ آه، نازلي كانت تمتلك قدرة خارقة على تأجيل الواقع. يدها امتدت بضربة محترفة لإسكات المنبّه، واستدارت تكوّر نفسها في الغطاء بإصرار شخص قرر أن العالم لا يستحق مواجهته اليوم.
لكن العالم لم يكن يشاركها الرأي.
“نازلي! قومي يا بنتي، تأخرتي على شغلك!”
كانت تلك والدتها، صاحبة حنجرة تنافس أي أوبرا إيطالية في القوة والحدة. ومع ذلك، لم يكن هذا كافيًا لإقناع نازلي بأن الوقت قد حان للنهوض.
“يا ماما خمس دقايق بس، مش هايفرقوا والله!”
“أنتِ بتشتغلي في الإسعاف ولا في الجيش؟! قومي بقى، المدير هيرفدك النهارده!”
مديرها… الكلمة وحدها كانت كفيلة بأن تقفز نازلي من السرير وكأن نار الجحيم اشتعلت أسفله. في غضون عشر دقائق، كانت قد ارتدت ملابسها كيفما اتفق، ربطت حجابها بسرعة مشكوك في سلامتها، وخرجت راكضة من المنزل بحذاء لا تزال تجهل إن كان الزوج الصحيح أم أنها ارتدت فردتين مختلفتين.
بالطبع، المصائب لم تتوقف هنا.
كانت المواصلات العامة ساحة معركة يومية، ونزولها إلى الشارع يعني استعدادها لمواجهة سيل من التدافع، النظرات المستغربة، والدراما التي يبدو أنها تطاردها أينما ذهبت. وبينما كانت تحاول الصعود إلى الميكروباص، رأت رجلًا يحاول حجز مكان لصديقه غير المرئي على المقعد المجاور له.
“حضرتك، في حد قاعد هنا؟”
“آه، أخويا جاي حالًا.”
نظرت نازلي يمينًا ويسارًا، ثم تمتمت وهي تجلس بلا مبالاة: “طب لما ييجي، قوله نازلي بتسلم عليه.”
الراكب لم يجد ردًا مناسبًا، بينما السائق انفجر ضاحكًا، مما جعل بقية الركاب ينظرون إليها نظرات مختلطة بين الإعجاب والريبة. أما نازلي؟ فقد كانت مشغولة بمحاولة فهم كيف أصبحت حياتها فيلم كوميدي ساخر.
وعندما وصلت أخيرًا إلى عملها… حسنًا، لنقل إن يومها كان قد بدأ بالفعل بأسوأ طريقة ممكنة، ولم تكن تعلم أن الأسوأ لم يأتِ بعد.
دخلت المكتب وهي تلهث، محاولة أن تتسلل إلى مقعدها دون أن يلاحظها أحد، لكن القدر كان له رأي آخر.
“آنسة نازلي!”
جمدت في مكانها كأنها أحد شخصيات أفلام الرعب عندما تسمع صوت الوحش خلفها. التفتت ببطء، لتجد مديرها، الأستاذ جلال، ينظر إليها بنظرة جعلت معدتها تؤدي حركات بهلوانية.
“صباح الخير يا فندم!” قالت بابتسامة واسعة، محاولة أن تشتري بضع ثوانٍ قبل أن يبدأ الانفجار.
“صباح الخير؟ بقالك كام مرة تتأخري؟ أنتِ فاكراه كافيه تيجي على مزاجك؟”
“لا والله، حضرتك أنا عندي مشكلة مع المواصلات، وكل يوم بقول هقوم بدري وأ…”
“مواصلات إيه يا نازلي؟ مش هينفع كده، انذار أخير، مرة كمان وهتلاقي نفسك برا الشغل، فاهمة؟”
“فاهمة جدًا، مفهوم زي الشمس!”
استدارت بسرعة وذهبت إلى مكتبها قبل أن تقول أي شيء آخر قد يورطها. ألقت بنفسها على الكرسي، وأخذت نفسًا عميقًا.
“كان يوم لطيفًا بحق…” تمتمت بسخرية، قبل أن تبدأ في فتح جهاز الكمبيوتر والاستعداد ليوم عمل طويل.
لكن فجأة، شعرت بقشعريرة غريبة تسري في جسدها. إحساس ثقيل، كأن هناك من يراقبها. رفعت رأسها ونظرت حولها، لكن كل شيء كان طبيعيًا. المكتب مزدحم كالمعتاد، زملاؤها منشغلون بمهامهم، ولا يوجد شيء غير مألوف.
“أوهام، غالبًا بسبب قلة النوم.” هزت رأسها وعادت لعملها، غير مدركة أن هذا الإحساس… لن يكون الأخير.
___________________________________
في قلب مملكة أوغاديا، حيث تمتزج رائحة الأخشاب المحترقة بأريج الأرض الرطبة بعد المطر، كان القصر الملكي يلوح في الأفق بقبابه الداكنة وأبراجه الشاهقة، كأنّه ظل عملاق يراقب الجميع بصمت.
في أحد ممرات القصر الطويلة، كانت خطوات شاهين—الحارس الشخصي للملك كيوان—تتردد بخفة على الأرضية الحجرية. لم يكن الليل وقتًا مناسبًا للتجوّل داخل أسوار القصر، لكن الأوامر التي تلقاها لم تكن تحتمل التأجيل.
توقف أمام باب خشبي ثقيل، ثم طرقه بخفة، منتظرًا الإذن بالدخول. لم يتأخر الصوت من الداخل، هادئًا لكنه يحمل نبرة قاسية، شيئًا جعل شاهين يتردد للحظة قبل أن يفتح الباب ويدخل.
داخل الغرفة، كانت هناك طاولة طويلة تنتشر عليها مخطوطات قديمة، وخريطة عملاقة لممالك العالم المعروف. في منتصف الغرفة، جلس رجل طويل القامة، بملامح صارمة ونظرة مدروسة، عاكسًا صورة الحاكم الذي تعوّد ألا يثق بأحد.
رفع الملك كيوان عينيه الباردتين نحو شاهين، متجاهلًا قطرات الحبر التي تناثرت على أطراف أصابعه من الكتابة المستمرة.
“هل وصل الخبر؟”
ابتلع شاهين ريقه قبل أن يجيب: “حتى الآن، لا شيء مؤكد يا مولاي… ولكن، البعض يقولون إنّ…” توقف للحظة، محاولًا العثور على الكلمات المناسبة، ثم أكمل بصوت خافت: “إنّ العمة أمينة باتت تتصرف على نحو… غير مألوف.”
لم تتغير تعابير الملك، لكنه دفع الكرسي للوراء ببطء، وكأنه كان يتوقع هذا الرد منذ البداية. وقف متجهًا نحو النافذة العريضة، ينظر إلى السماء التي كانت مظلمة كليًا، دون نجمة واحدة تلمع في الأفق.
ثم همس لنفسه، بصوت بالكاد سمعه شاهين:
“الهدوء الذي يسبق العاصفة…”
__________________________
في مملكة أوغاديا، كان الليل قد بدأ يُسدل ستاره، لكن ذلك لم يكن يعني الهدوء أبدًا، ليس عندما يكون لؤي في الجوار.
بخطوات خفيفة، تسلل عبر أروقة القصر، عازمًا على تنفيذ خطته المعتادة: إزعاج العمة أمينة.
كانت العمة أمينة عرافة المملكة، امرأة غامضة يهابها الجميع، تهمس لنفسها بأشياء لا يفهمها أحد، وتملك نظرات قادرة على جعل أقوى الرجال يشعرون بأن نهايته اقتربت.
لكن هل هذا يعني أن لؤي كان يخشاها؟
بالطبع لا.
بكل هدوء، دس رأسه عبر الباب الخشبي الثقيل، ثم صرخ بأعلى صوته:
“عمة أمينة! لقد رأيت في المنام أنك تزوجتِ!”
توقفت العرافة عن تحريك أصابعها فوق البلورات السحرية، ثم رفعت نظرها إليه ببطء شديد، كأنها كانت تفكر في أفضل طريقة لإنهاء حياته.
“لؤي… يا بني، كم مرة أخبرتك ألا تقتحم مكاني بهذه الطريقة؟” قالت بنبرة محايدة، لكن عيناها كانتا تقولان: “أنت تهدر آخر أنفاسك الآن.”
لكنه لم يكن ليأخذ التهديدات على محمل الجد، فابتسم وهو يتكئ على الحائط، ثم قال بسخرية:
“لكنني قلق عليكِ! لقد رأيت رؤيا بأن فارسًا غامضًا سيسرق قلبك، أليس هذا رائعًا؟”
حبست العمة أمينة أنفاسها، ثم أغلقت عينيها، وكأنها تحاول أن تتذكر سبب وجود هذا الكائن المزعج في حياتها.
“لؤي، هل تعلم أنني كنت على وشك اكتشاف سر خطير يخص المملكة؟”
“حسنًا، والآن عرفتِ سرًا أخطر: قلبك لن يبقى وحيدًا بعد اليوم!”
نظرت إليه العمة أمينة مطولًا، ثم زفرت بضيق وهي تعود إلى عملها:
“اغرب عن وجهي قبل أن أريك كيف يتحول الإنسان إلى ضفدع.”
لكنه، بدلًا من المغادرة، قفز إلى الطاولة وجلس عليها وكأنه في نزهة، ثم قال بنبرة بريئة:
“بصراحة، جئت لأنني أريد معرفة شيء آخر… ما الذي تخفينه عن الملك كيوان؟”
تجمدت يد العرافة للحظة. نظرت إليه نظرة طويلة، كأنها تحاول أن تستشف إن كان يسأل من باب المزاح أم الفضول الحقيقي.
ثم انحنت للأمام وهمست بصوت بالكاد يُسمع:
“وهل تعتقد أنني سأخبرك، أيها المزعج؟”
ضحك لؤي وهو يقفز من على الطاولة، ثم قال بصوت مرح:
“كنت أعلم أنكِ تخفين شيئًا! لا تقلقي، سأكتشفه بطريقتي الخاصة.”
وبكل هدوء، خرج من الغرفة وهو يصفر بلحن غامض، تاركًا العمة أمينة تحدق في أثره بحنق.
“ذلك الصبي سيتسبب في هلاكي يومًا ما…” تمتمت وهي تعود إلى بلورتها، لكن عقلها كان مشغولًا بأمر آخر…
“هل يمكن أن يكون أقرب إلى الحقيقة مما يظن؟”
_________________________________
كانت نازلي تجلس في مقهى صغير، تحدق في كوب القهوة الباردة أمامها بشرود، بينما تتجاهل تمامًا المحاضرة الجادة التي كانت صديقتها يارا تلقيها عليها.
“بصي، نسبة إن حياتك تبقى مستقرة زي الناس الطبيعية بقت 0.0001٪، وده لو حصلت معجزة كونية!”
رفعت نازلي حاجبها، ثم استندت إلى الطاولة وقالت ببرود:
“يعني في أمل؟”
“بقولك 0.0001٪، يعني أقرب لاحتمالية إنك تلاقي عشرين جنيه مرمية في الشارع، وبعدين تطلع مرسومة عليها خريطة لكنز مخفي!”
ابتسمت نازلي، ثم أخذت رشفة من قهوتها، وهي تفكر أن حياتها قد لا تكون كارثية إلى هذا الحد… صحيح أن الصباح بدأ بكارثة، والمدير كاد يطردها، وكادت أن تقع في حفرة في الشارع، لكنها لا تزال على قيد الحياة، وهذا يعتبر إنجازًا.
“بصي، أنا مش مقتنعة إن حياتي مأساوية، في ناس وضعها أسوأ، زي الناس اللي بيشتروا كارت شحن ويتطلع لهم الرقم غلط.”
وضعت يارا يدها على وجهها بإحباط، ثم قالت: “إنتِ حالة ميؤوس منها!”
لكن قبل أن ترد نازلي، انطلقت موسيقى هاتفها بأعلى صوت… كانت أغنية درامية جدًا، لدرجة أن النادل القريب توقف عن العمل لينظر إليها باستغراب.
“ألو؟”
جاءها صوت أمها الغاضب:
“ناااازلي! أنتي فين؟ عندك مشوار حالًا، روحي استلمي الطرد اللي وصل عند المخزن في آخر الشارع!”
“طرد إيه؟”
“متسأليش كتير، روحي بسرعة!”
أغلقت نازلي الهاتف، ونظرت إلى يارا باستسلام:
“شايفة؟ حتى القهوة مش عارفة أشربها بسلام!”
نهضت من مكانها، وحملت حقيبتها وهي تتمتم:
“مشوار بسيط، هروح أستلم الطرد وأرجع… إيه أسوأ حاجة ممكن تحصل؟”
لكنها لم تكن تعلم أن هذا المشوار… سيكون آخر مشوار طبيعي لها في هذه الحياة.
________________________
دفعت نازلي باب المخزن المهترئ بحذر، وهي تنظر حولها بريبة. المكان كان مظلمًا بعض الشيء، مليئًا بالصناديق المتراكمة التي بدت وكأنها لم تتحرك منذ الحرب العالمية الثانية.
“حد هنا؟”
لم يأتِها أي رد، فقررت أن تتقدم أكثر. خطواتها كانت تصدر صوتًا خافتًا فوق الأرضية المغبرة، وصدى أنفاسها كان الشيء الوحيد الذي تسمعه.
“دي حركة غبية جدًا من أفلام الرعب، البطلة تدخل لوحدها وبعدها تختفي!” تمتمت مع نفسها، لكنها لم تتوقف.
وفجأة، سمعت صوتًا خفيفًا خلفها…
استدارت بسرعة، لكن لم يكن هناك أحد.
حاولت تجاهل القشعريرة التي تسللت إلى جسدها، ثم أكملت سيرها حتى وصلت إلى مكتب صغير خلف المخزن.
كان هناك رجل عجوز يجلس خلف المكتب، ملامحه حادة وعيناه ضيقتان وكأنه يقيّمها.
“إنتِ نازلي؟”
“أيوه، ماما قالت لي فيه طرد باسمي هنا.”
الرجل لم يرد، بل انحنى وأخرج صندوقًا خشبيًا يبدو وكأنه خرج من العصور الوسطى، ووضعه أمامها.
“تفضلي.”
نظرت نازلي إلى الصندوق بريبة. لم يكن مغلفًا بالشكل المعتاد، ولا يحمل أي عنوان أو بيانات شحن.
“إيه ده؟”
“اللي جاي ياخده ما يسألش.” قالها الرجل بصوت منخفض، وكأنه يخشى أن يسمعه أحد.
تراجعت نازلي خطوة للوراء، ثم قالت بتوتر: “طب بص، أنا مش متعودة أخد طرود شكلها مشبوه كده، خاصة من ناس غامضة.”
لكن الرجل لم يبدُ مهتمًا بكلامها، بل دفع الصندوق نحوها بإصرار.
“خديه، وافتحيه في البيت… مش هنا.”
كان عقلها يصرخ بأن هذا خطأ، لكنها بطريقة ما وجدت نفسها تلتقط الصندوق.
وفي اللحظة التي لمست فيها سطحه البارد… شعرت بقشعريرة غريبة تسري في جسدها.
لم تكن تعلم أن هذه ستكون آخر مرة ترى فيها عالمها كما تعرفه.
______________________________________
في قصره الواقع في قلب مملكته، حيث تسود الفوضى أكثر من النظام، كان الملك أدريان مستلقيًا على عرشه بطريقة لا تليق بملك أبدًا. إحدى قدميه متدلّية على مسند العرش، والأخرى مرتفعة ليستند عليها بمرفقه، بينما كان يقلب في خنجره بملل شديد.
“هيكتور!” نادى بصوته الرنان، ليظهر خادمه المخلص –أو بالأحرى التعيس– على الفور.
“نعم، مولاي؟”
“هل مللتُ اليوم؟”
هيكتور تلعثم: “أنت… تسألني إن كنت قد مللت، مولاي؟”
أدريان أومأ بجديّة مصطنعة. “بالضبط! كملكٍ عظيم، أحتاج إلى مستوى معين من التشويق في يومي، وإلا سأضطر لخلق المشاكل بنفسي!”
قبل أن يتمكن هيكتور من الرد، اقتحم الباب شخص آخر –كما هو معتاد في حياة أدريان الفوضوية–، وكانت الساحرة سيرينا، التي تبدو دائمًا وكأنها على وشك رميه في حفرة نيران بسبب أفعاله الطائشة.
“أدريان، بحق جميع الأرواح المسكينة التي تتحملك، ماذا فعلت هذه المرة؟”
أدريان رفع حاجبيه بمكر. “أنا؟ لا شيء! فقط أحاول أن أفهم لماذا عالمي هذا ممل لهذه الدرجة. هل تعلمين، يا سيرينا؟ أشعر أن هناك مغامرة عظيمة قادمة في الأفق!”
سيرينا عقدت ذراعيها بملل. “إذا كانت مغامرتك القادمة تتضمن اختطاف شخص ما، أو تحدي أحد الملوك في قتال لا معنى له، فأرجوك… لا!”
أدريان ضحك وهو يستقيم في جلسته. “أوه، لا تقلقي! هذه المرة… القدر هو من سيجلب لي المغامرة، وليس العكس.”
كانت سيرينا على وشك أن ترد بسخرية، لكن إحساسًا غريبًا راودها للحظة… وكأن كلامه لم يكن مجرد هراء هذه المرة.
______________________________________
في ساحة التدريب الشاسعة داخل مملكة أوغاديا، كان صوت اصطدام السيوف يتردد في الأرجاء، مختلطًا بهتافات المحاربين وصيحات الحماس. في وسط هذا كله، وقف إياد، قائد الفرسان، عابسًا كعادته، ممسكًا بسيفه وهو يواجه أحد الفرسان في نزال تدريبيّ.
لم يكن إياد معروفًا بالصبر، بل كان أشبه ببركان خامد لا يحتاج سوى شرارة لينفجر. وكل من تدرب تحت يده كان يعلم أنه لا يقبل الأخطاء، ولا يحب الأحاديث الفارغة أثناء العمل.
“أهذا كل ما لديك؟” قال بحدة، وهو يصد ضربة خصمه بسهولة، قبل أن يطيح بسيفه بضربة قوية كادت تطرحه أرضًا.
“أعتذر، سيدي!” قال الفارس بصعوبة، وهو يحاول التوازن مجددًا.
إياد لم يرد، فقط نظر إليه بنظرة باردة قبل أن يستدير ليغادر الساحة. لكنه توقف فجأة عندما سمع صوتًا لم يكن متوقعًا.
“يااا الله، قائد الفرسان العظيم إياد! يبطش برجاله كأنه في معركة حقيقية! أليس لديك قلب؟”
التفت بسرعة، لتقع عيناه على نادين، طاهية القصر –أو بالأحرى، الكارثة المتحركة التي تجلب معها الصداع أينما ذهبت.
كانت واقفة عند مدخل الساحة، تحمل صينية طعام في يدها، وتضع الأخرى على خصرها بطريقة مسرحية، وكأنها على وشك إلقاء خطاب تاريخيّ.
إياد لم يُصدق عينيه للحظة، قبل أن يشعر بدمائه تغلي. ضغط على أسنانه بقوة، ثم زمجر بغضب محاولة تمالك اعصابه : “نادين! كم مرة أخبرتكِ ألا تجلبي الطعام إلى ساحة التدريب؟! هناك غرفة طعام مخصصة لهذا، وليس هذا المكان!”
نادين، وكأنها لم تسمع حرفًا، تقدمت نحوه بخطوات واثقة، ثم وقفت أمامه مباشرة ورفعت حاجبها قائلة: “أوه، إياد العزيز، لا تكن بهذا الجمود! أنا فقط أحرص على ألا تموت جوعًا وأنت تتظاهر بالصرامة!”
كان على وشك الانفجار غضبًا، لكن قبل أن يقول أي شيء، رفعت الصينية أمام وجهه قائلة بابتسامة ماكرة: “حسنًا، لكن اعلم أنني وضعت لمستي الخاصة في الطبق… مفاجأة صغيرة.”
إياد نظر إليها بشك، بينما كانت نظرات الفرسان تتنقل بينهما في ترقب شديد. الجميع كان ينتظر لحظة اشتعال الموقف…
لكن نادين فقط ابتسمت بخبث قبل أن تضع الصينية وتستدير، تغادر المكان وهي تصفر بلحن غامض.
أمّا إياد، فحدّق في الطعام للحظة، ثم تمتم وهو يحاول تهدئة نفسه: “أقسم أنها ستُفقدني عقلي يومًا ما.”
________________________________
تراجعت نازلي بخطوة مرتبكة، لكن يديها كأنهما تحركتا ضد إرادتها. لم تستطع إيقاف نفسها. تلامس أصابعها الصندوق البارد، وأصابها شعور غريب بالرهبة. كما لو أن هذا الطرد كان يحمل شيئًا لا يمكن فهمه، شيء كان من الأفضل أن تتركه وراءها. لكنها أخذته، وكأن قوة غير مرئية كانت تدفعها نحو هذا الخيار.
“افتحيه في البيت، وده مش وقت أسئلة.” قال الرجل العجوز بنبرة جافة.
نظرت إلى الرجل في ارتباك، وأصابها شعور غريب أن هذا الموقف ليس عاديًا، لكن كأنها كانت مدفوعة من شيء غامض لا يمكنها تفسيره. هل كانت تريد أن تنتهي هذه اللحظة؟ أو هل كانت تجذبها رغبة في معرفة ما الذي سيحدث لو فتحت الصندوق؟
“شكرًا…” قالت بتردد، ثم أمسكته بإحكام، وعادت أدراجها إلى الخارج.
مشت بخطوات سريعة في الممر المظلم، وعقلها يتسابق مع أفكارها. “مفيش حاجة تحصل. يمكن يكون مجرد طرد عادي… مجرد لعبة شؤم عقلية.”
لكن شعورًا غريبًا بدأ يزداد داخلها، وكل خطوة تبتعد بها عن المخزن كانت كأنها تخطو في عالم غريب تمامًا.
عندما خرجت أخيرًا إلى الشارع، كان الصندوق في يدها ثقيلًا كما لو كان يحمل أعباءً لا تستطيع تحمّلها. شعرت برغبة شديدة في العودة إلى المنزل بسرعة، لكن كانت هناك دوامة من الفضول تجذبها نحو فتحه. شعور قاتل بالفضول ينهش داخل صدرها.
عندما دخلت الشقة، جلست على أقرب كرسي، وأخرجت الصندوق أمامها. كان سطحه مغطى بالغبار، وكانت الزخارف المنقوشة عليه تبدو قديمة، وكأنها من عصر آخر. قشعريرة أخرى اجتاحت جسدها، وتوقفت للحظة قبل أن ترفع الغطاء.
“مفيش حاجة هتحصل، نازلي. مجرد طرد… مجرد فضول. افتحيه خلاص.” همست لنفسها.
ولكن بمجرد أن رفعت الغطاء، فاجأها شيء غير متوقع. كان هناك شيء يتحرك داخل الصندوق.
سحبته سريعًا، وإذا بها تجد شيئًا ملفوفًا بقطعة قماش قديمة. ومع ذلك، كان هناك شيء غريب في الملمس، شيء لا يمكن تجاهله. شعرت بشيء غريب يلامس أصابعها، وكأن الصندوق نفسه كان ينفث شيئًا مظلمًا في الهواء.
“يا الله…” همست وهي تتراجع بشكل لا إرادي.
__________________________________