قصة غرامية قصيرة “نقطة ومن أول الدنيا” للكانبة/ صباح البغدادي.
قصة غرامية قصيرة
إليك أحداث قصة غرامية قصيرة “نقطة ومن أول الدنيا”.
حين تكلّم الصمت
لم يكن لقاؤهما مجرّد صدفةٍ عابرة، بل لحظة فارقة نظّمها القدر بخيوطٍ خفيّة، كأنّها خريطة روحيّة تقود كل تائهٍ إلى موطنه الدافئ.
هي، التي تسكن أعلى البناية، كانت تكتب لتنسى وتختبئ من ضجيج العالم خلف أوراقها، بينما هو، القادم الجديد من صمتٍ طويل، نزل ليسكن تحتها، يحمل تاريخًا مثقلًا بالوحدة والتأمل.
مرّت أيام على التحية العابرة التي لا تتجاوز ابتسامةً سريعة عند باب العمارة، حتى جاء الليل الذي تنفّست فيه السماء، وبعثت نسمة خفيفة كأنها تمهّد لشيء أكبر من الصدفة.
صعدت إلى السطح، تحمل دفترها وكأنها تمسك بطرف عقلها الذي يغلي بالأفكار. جلست في هدوء، والمدينة تحتها بدت كأنها نائمة على أطراف الحنين.
وفي تلك اللحظة، انفتح باب السطح بخفّة، ودخل هو. خطواته حذرة كأن روحه تخشى أن تزعج سكونها، وفي يده كوبان من الشاي.
اقترب مبتسمًا:
– مساء الخير… قولت أجيبلك شاي، يمكن الجو يساعدك تفكّري أحسن.
رفعت رأسها بدهشة خفيفة، ثم ضمّت الكوب إلى كفّيها. لم يكن الدفء في سخونة الشاي بقدر ما كان في حضوره.
– مساء النور… شكراً، أنا فعلاً كنت محتاجة حاجة تدفّيني. الجو برد فجأة.
جلس بقربها، محافظًا على مسافة صامتة بينهما، لكنها لم تكن فراغًا؛ بل مساحة مشتركة للتنفس.
نظر إليها نظرة حائرة، ثم سأل بصوت مبحوح بعض الشيء:
– بتكتبي إيه؟
أغلقت دفترها ببطء، وكأنها تخشى أن تنكشف أسرارها على السطور، ثم قالت:
– بكتب اللي بخاف أقوله… ساعات الكلام بيوجع، إنما الكتابة بتطبطب.
ابتسم ابتسامة هادئة تحمل فضولًا صادقًا:
– طب قوليلي… إيه أكتر حاجة بتخافي منها؟
ساد صمت ثقيل، ولمعت عيناها بنظرة بعيدة، قبل أن يخرج صوتها خافتًا كأنه يهرب من قلبها لا من شفتيها:
– البُعد… البُعد اللي بييجي فجأة وياخد معاه تفاصيلك، وكأنك عمر ما كنت.
أنا مش بخاف من الفقد… أنا بخاف من النسيان اللي بييجي بعده.
ارتجف قلبه للحظة، كأن كلماتها أصابت شيئًا غائرًا فيه. أنصت بصدقٍ نادر، حتى بدا الإصغاء عنده فعل حبّ لا قولًا. ثم قال، بنبرة أعمق مما توقّعت:
– أنا كمان بخاف… بس خوفي مش من البُعد. بخاف أكتر إني أكون جنب حد… وأكتشف إنه مش حاسس بيا.
ارتسمت على شفتيها ابتسامة حزينة، لكنها ابتسامة تحمل اعترافًا ضمنيًا بأنها وجدت أخيرًا من يشبهها في خوفها.
تجرّأت وسألته:
– ولو لقيت حد حاسس بيك… هتتمسّك بيه ولا هتسيبه زي الباقيين؟
تنفّس بعمق، نظر إلى عينيها طويلًا ثم همس:
– اللي يحس بيا… يبقى معايا لآخر العمر. أنا مش بدي قلبي بسهولة… بس لو اديته، ما بيرجعش.
كانت السماء فوقهما صافية، والنجوم شاهدة على ولادة صمتٍ جديد… صمتٍ لم يعد بينهما فراغًا، بل جسرًا يربط روحين كانتا تائهتين.
(اعتراف تحت السماء)
تتوالى أحداث قصة غرامية قصيرة “نقطة ومن أول الدنيا”.
أنصت بصدقٍ نادر. كان الإصغاء عنده فعل حبّ، لا قولًا. لم يكن ينظر إليها كفضوليّ يترقّب سرّها، بل كروحٍ وجدت ما يشبهها في حكاية أخرى.
قال بصوتٍ منخفض، كأنّ الكلمة تُنتزع من قلبه لا من لسانه:
– أنا كمان بخاف… بس خوفي أكبر إني أكون جنب حد… ويبقى هو مش حاسس بيا.
تغيّرت نظرتها نحوه فجأة، كأن شيئًا في داخلها كسر جدار الصمت، وقرّر الاعتراف قبل أن يذوب. ارتعشت ابتسامتها، ثم همست بصوتٍ يختبئ بين القوة والخجل:
– أنا حاسة بيك… من أول مرة شفتك. وكل مرة بشوفك، بحس إن الدنيا بتهدى… وإن الخوف ليه ضهر.
توقّف قلبه لحظة، وكأن الزمن تواطأ مع اعترافها. نظرت إليه بعينين تنطقان بما عجز لسانها عن قوله، قبل أن تهمس:
– إنت عارف؟ إنت حتة الأمان في طريق كله خوف. أنا كنت تايهة… ولما قابلتك، لقيت قلبي بيغرق… بس في حاجة دافية بتنقذني.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة، حملت شيئًا من المزاح ليخفّف وطأة الموقف:
– يعني أنقذتك؟
انفجرت ضحكتها، لكنها كانت ضحكة مختلفة، محمّلة بعُمرٍ من الخوف وجد أخيرًا من يذوّبه. قالت وهي ترفع عينيها إليه:
– نجّيت قلبي من الغرق.
حلّت بينهما لحظة صمت، لكنّها لم تكن ثقيلة. كان صمتًا ناعمًا، مليئًا باعترافات لم تُقال بعد، وكأن الهواء نفسه صار شريكًا لهما.
رفع بصره إلى السماء المرصّعة بالنجوم، ثم قال بصوتٍ يشوبه قلق المستقبل:
– لو الأيام خدتني بعيد… هتفضلي فاكراني؟
تردّدت قليلًا، لكن نظرتها له كانت أقوى من أي تردّد. ارتسم في عينيها صدقٌ نادر، ثم قالت:
– أعوذ بالله من يوم مفهوش تفاصيلك. كل حاجة قبلك كانت عادية… وبعدك بقت فارقة. متبعدش… البُعد بيمحي حاجات مبيرجعهاش القُرب تاني.
اقترب منها أكثر، وكأن المسافة بينهما لم تعد مسافة جسد بل مسافة روح تُختصر بخطوة واحدة. كان وجهها يلمع بضوء القمر، وعينيها تحملان وعدًا غير منطوق:
وعد أن هذه الليلة لن تكون مجرّد صدفة… بل بداية حكاية.
(ومن أول الدنيا)
تتوالى أحداث قصة غرامية قصيرة “نقطة ومن أول الدنيا”.
اقترب منها ببطء، يمدّ يده وكأنه يخشى أن يوقظ الحلم من جماله. أمسك يدها برفق، لمسة خفيفة تحمل أكثر مما تحمله الكلمات. كان صمته يقول: “أنا هنا… ومش همشي.”
نظر في عينيها طويلًا، ثم تمتم بصوت يقطر صدقًا:
– كل حد بيحب… بس مش كل حد يبقى وطن جوا حد تاني. وإنتي جوايا مش بس وطن… إنتي الدولة كلها. بثوراتها، واستقرارها، بنورها وعتمتها… وأنا ماقدرش أعيش منفي منك.
ارتجفت أصابعها بين يديه، وابتسمت ابتسامة باهتة من شدّة ما شعرت به، ثم همست بصوت بالكاد يُسمع:
– الصدفة اللي جابتك جنبي بألف ميعاد… ولو الزمن لف من تاني… أنا بردو هختارك.
في تلك اللحظة، كان كل شيء حولهما ساكنًا، وكأن الليل بكواكبه ونسائمه ترك لهما مساحة يكتبان فيها قدرًا جديدًا. لم تكن الأسماء مجرد حروف، بل حياة كاملة تنبض بينهما.
هي لم تكتفِ بأن تراه، بل شعرت باسمه يسري في قلبها، كل حرفٍ منه كان يحمل معنى:
ع. ـشقٌ لم تعرفه من قبل.
ب. ـهجة غريبة دخلت قلبها بلا استئذان.
د. ـفء يذيب برد لياليها الطويلة.
ا. ـطمئنان لم تذقه يومًا قبل ظهوره.
ل. ـقاء غيّر قوانين حياتها المكتوبة.
ر. ـجفة خفيفة كلما نطق اسمها.
ح. ـنين دائم إليه، حتى وهو أمامها.
م. ـيل كامل للقلب… لا رجعة منه.
شعرت للحظة أنّ العالم كلّه انكمش ليصير بين يديه وبين قلبها. لم يعد الليل ليلًا، ولا السطح سطحًا، بل صار أرضًا مقدّسة شهدت اعترافًا لم يكن في الحسبان.
تنفّس هو بعمق، ثم رفع رأسه نحو السماء، وقال كأنه يعاهدها أمام النجوم:
– من الليلة دي… إنتي قصتي، وعمري، ونصفي اللي ناقصني. مش هسمح لزمن ولا بُعد يسرقك مني.
ردّت وعيناها تلمعان بالدموع التي رفضت السقوط:
– وأنا… من الليلة دي، مش هعرف أكتب كلمة إلا وإنت فيها. ولا هلاقي نفسي غير جنبك.
نهاية قصة غرامية قصيرة “نقطة ومن أول الدنيا”
لم تكن تلك اللحظة “نقطة آخر السطر”، بل كانت نقطة بداية… ومن أول الدنيا.
#سكريبت
#صبا
#نقطة_ومن_أول_الدنيا
قصة غرامية قصيرة
إذا أعجبتك قصة غرامية قصيرة “نقطة ومن أول السطر”، يمكنك متابعة بقية أعمال الكاتبة/ صباح البغدادي على منصة عوالم من الخيال.
جميل
مرورك أجمل