المشهد الأول:
في ليلة باردة غارقة في الظلام، وقف “سليم” عند بوابة القلعة المهجورة، تلك التي كانت تحوم حولها الأساطير منذ زمن بعيد. كانت البوابة الحديدية العتيقة مفتوحة، صريرها يشبه أنين الزمن نفسه، وكأنها تدعوه للدخول. وقف متجمداً، ليس بسبب البرد، بل بسبب الهيبة التي تسللت إلى قلبه وهو يحدق في القلعة المظلمة المتربعة خلف البوابة.
القلعة ارتفعت أمامه مثل وحش قديم، بأبراجها الحادة التي تخترق السماء الملبدة بالغيوم، وإضاءات باهتة تومض من نوافذها الضيقة وكأنها عيون تراقب.
تساءل كيف يمكن لمكان مثل هذا أن يُترك ليصبح مجرد شبح من الماضي؟ كيف تحول هذا الصرح الضخم إلى مجرد أطلال تحاصرها الأشجار الميتة والطرق المغبرة؟
المشهد الثاني:
تقدم “سليم” خطوة بخطوة، يسمع خطواته وهي تتردد في الأرجاء، تتقاطع مع صوت الرياح التي تهب بين الأغصان العارية وكأنها تنوح على شيء مفقود. كان يعلم أن لا أحد يجرؤ على دخول القلعة منذ عقود. كل من حاول، لم يعد. لكن الفضول والرغبة في اكتشاف الحقيقة جذبته إلى هذا المكان.
توقف عند البوابة للحظات، يتأمل المدخل المظلم الذي بدا وكأنه باب إلى عالم آخر. الضوء الشاحب المتسلل من الداخل كان يغريه بالدخول، لكن شعورًا غير مريح تملك منه، وكأن المكان ذاته يتنفس، وكأن القلعة حية وتنتظر دخوله بفارغ الصبر.
جمع شجاعته وتخطى البوابة. بمجرد أن دخل، شعر وكأن الهواء أصبح أثقل. جدران القلعة العالية تحتضن المكان وكأنها تخنق السماء فوقه.
رائحة العفن تملأ المكان، والعشب الذي كان من المفترض أن ينمو بين الصخور بدا وكأنه ذبل منذ قرون، هناك شيء غير طبيعي في هذا المكان، شيء يثير الرعب في قلبه، لكن “سليم” لم يكن مستعداً للتراجع.
المشهد الثالث:
بينما كان يتقدم نحو الباب الأمامي للقلعة، لاحظ ظلالاً تتحرك بين الأشجار البعيدة. توقف للحظة، محاولاً تحديد ما إذا كانت مجرد أوهام أو أن هناك شخصاً آخر يراقبه. لكن لم يكن هناك أي صوت أو حركة واضحة. تنفس بعمق، وواصل طريقه.
وصل إلى الباب العملاق المغلق، والذي بدا وكأنه مصنوع من خشب قديم، محفور عليه رموز لا يستطيع فهمها. دفع الباب، لكنه لم يتحرك، بحث بعينيه عن أي وسيلة لفتحه. فجأة، شعر بيد خفية تمسك بكتفه. التفت بسرعة، لكن لم يكن هناك أحد. شعر بأن قلبه يتسارع، وأنفاسه تزداد ثقلاً.
المشهد الرابع:
في تلك اللحظة، سمع صوتاً خافتاً، صوتاً بدا وكأنه يأتي من أعماق القلعة، لم يكن متأكداً مما إذا كان مجرد هلوسة أو حقيقة، لكن الصوت كان واضحاً بما يكفي ليجعله يتجمد في مكانه، كان الصوت أشبه بصوت همس أو ربما نداء. كان الصوت يناديه باسمه.
“سليم…”
تراجع خطوة إلى الوراء، ويده تمتد تلقائياً إلى باب القلعة وكأنه يبحث عن دعامة يتكئ عليها، لكن المفاجأة كانت أن الباب، الذي كان قبل لحظات مغلقاً بإحكام، انفتح بصوت مرعب. كانت الغرفة الداخلية مظلمة بشكل مخيف، والهواء الذي خرج منها كان بارداً كالجليد.
تردد للحظات، لكنه في النهاية دخل. كان يعلم أن الرجوع الآن قد يكون أكثر خطورة من التقدم، كان الممر مظلماً وضيقاً، لكن في نهايته، كان هناك بصيص من الضوء. استمر في المشي، وقلبه ينبض بقوة مع كل خطوة.
مع اقترابه من مصدر الضوء، بدأت تظهر أمامه صور على الجدران. كانت لوحات قديمة معلقة، تظهر أشخاصاً بملابس أرستقراطية، وجوههم مغطاة بالغبار، لكن أعينهم بدت وكأنها تحدق به. كانت الصور قديمة جداً، لكن هناك شيئاً غريباً فيها. في إحداها، كان هناك رجل يبدو مألوفاً… هل من الممكن أن يكون هذا “سليم”؟! أم أنه مجرد تشابه؟ شعر بقشعريرة تسري في جسده، وتوقف للحظة يتأمل التفاصيل.
المشهد الخامس:
بينما كان يقف أمام الصورة، شعر بحركة خلفه. التفت بسرعة، ورأى شيئاً يتحرك في الظلام. لم يستطع تحديده بدقة، لكنه كان متأكداً أن هناك شيئاً ما. بدأ يتراجع ببطء، لكن قبل أن يتمكن من فعل أي شيء، انطفأ الضوء فجأة، ووجد نفسه محاطاً بالظلام الدامس.
كان الصمت في المكان قاتلاً. وقف متجمداً، يحاول استيعاب ما يحدث. ثم، بدأ يسمع صوت خطوات تقترب منه ببطء. كل خطوة كانت تقترب أكثر فأكثر. حاول أن يتحرك، أن يهرب، لكنه شعر وكأن قدميه قد تجمدتا في مكانهما.
الخطوات أصبحت أقرب وأقرب، حتى وصل الصوت إلى مسافة قريبة جداً. في تلك اللحظة، شعر بأنفاس باردة تلامس رقبته.
تلك الأنفاس الباردة التي لامست رقبته جعلت كل شعرة في جسده تقف. تردد “سليم” للحظات، لكن غريزة البقاء دفعت قدميه للتحرك، ولو ببطء. كان الظلام مطبقاً حوله، ولم يستطع رؤية شيء، لكن الصوت خلفه كان واضحاً، قريباً ومخيفاً. الخطوات المتثاقلة تقترب، وتثقل قلبه بالخوف.
المشهد السادس:
بدأ “سليم” يتحرك بتوتر، يحاول العثور على مخرج من هذا الكابوس. بيديه الممدودتين، كان يتحسس الجدران الباردة بحثاً عن أي إشارة للخروج. لكن كل ما لامسته يداه كان حجارة قديمة، ورطوبة تلف الجدران. كانت كل خطوة تبدو وكأنها تؤدي إلى عمق أكبر في القلعة، بدلاً من أن تقوده إلى خارجها.
في لحظة من الخوف الشديد، قرر أن يركض، لم يعد بوسعه احتمال الشعور بأن شيئاً ما يطارده في الظلام. ركض بكل ما أوتي من قوة، متجاهلاً الأصوات المتزايدة خلفه، والتي بدت وكأنها تصدر من شيء غير بشري.
بينما كان يجري، شعر فجأة بأن الأرض تحت قدميه قد تغيرت. توقف فجأة، أدرك أنه وصل إلى قاعة واسعة. كان هناك ضوء خافت يأتي من الشقوق في السقف العتيق، يكشف عن أعمدة ضخمة وجدران مزينة برسومات باهتة من الماضي.
ولكن قبل أن يتمكن من استيعاب ما يراه، سمع صوتاً آخر، مختلفاً هذه المرة. كان الصوت ناعماً، لكنه عميق. جاء من مكان ما داخل القاعة:
“أخيراً… لقد وصلت.”
تجمد “سليم” في مكانه. الصوت كان غامضاً، لكنه كان واضحاً بما يكفي ليعرف أنه ليس وحده هنا، حاول أن يتتبع مصدر الصوت، لكن الضوء الخافت كان يمنعه من رؤية أي تفاصيل دقيقة. كل ما كان يراه هو ظلال تتراقص حوله، كأنها تتحرك بتأثير ذلك الصوت العميق.
لم يكن هناك مهرب الآن، ولكنه أدرك أن عليه يواجه ما ينتظره هنا، حتى وإن كان الموت في أعماق هذه القلعة الغامضة.
༺༻༺༻༺༻༺༻༺༻༺༻༺༻༺༻
بقلم رنا محمد “حبة البُندق”
رأيكم
جمال ودلال