حلم المالك
حلمي والمالك
كانت الغرفة غارقة في سكونٍ ثقيل، كأن الزمن توقف عند حافة وجعهما، لا شيء يتحرك سوى الأنفاس، وأنفاسهما بدت متعبة، مثقلة بوجعٍ لم يُقال. على الطاولة بينهما فنجانان باردان من القهوة، تكسوهما طبقة رمادية من الانتظار الطويل.
المشهد ألاول
جلست “حلم” قبالته، بعينين تائهتين بين التعب والانكسار، تُحدّق في الفراغ كأنها تبحث فيه عن إجابة، ثم قالت بصوتٍ مبحوحٍ، هادئٍ، يشبه آخر محاولات البوح:
ـ أنا تعبت من كل حاجة يا مالك… تعبت من الكلام اللي بنخبيه، ومن السكوت اللي بيقتلنا حبة حبة.
رفع رأسه ببطء، كأنه يخرج من دوامة تفكيرٍ عميقة. ملامحه امتزج فيها الذهول بالأسى، لكنّه لم ينطق. عيناه وحدهما كانتا تتكلمان، تصرخان دون صوت: أنا موجوع… بس مش عارف أقول.
لكنها قرأت وجعه قبل أن يتكلم، كما اعتادت دائمًا.
المشهد الثاني: وجع الاعتراف
اقتربت خطوة منه، وصوتها بدأ يهتز كمن يقاتل كي لا ينهار:
ـ إنت فاكر إنك بس اللي بتعدّي؟ اللي شايل وجعه ف قلبه وساكت؟
وقفت أمامه بثباتٍ يشبه الضعف المتنكر في قوّة، ثم تابعت:
ـ فاكر نفسك الوحيد اللي بيقول “معلش” ويسكت عشان الدنيا تمشي؟ طب سألت نفسك ليه بتعمل كده؟
ظلّ صامتًا، يراقبها بعينٍ متعبة تلمع فيها دمعة خائفة. كان يريد أن يرد، لكنه خشي أن ينهار الحائط الذي بناه بينهما بالكبرياء.
فأكملت، كأنها ترد على أفكاره قبل أن تخرج من فمه:
ـ هاقولك ليه… عشان إنت بتخاف تفتح كلام يوجعك. وأنا كمان بخاف، بس الفرق إني لما بلاقي ردودك بتوجعني… بختصر، وبسكت. وبعدي… وبشيل ف نفسي، ولما بيزيد الحمل… بانفجر. واياك والانفجار يا مالك، بيكون متأخر أوي… بعد ما كل حاجة بتتكسر.
المشهد الثالث: دهشة الحنين
تنفّس هو بعمق، كمن يبتلع جمرة الكلام، حاول أن ينطق، لكن صوته خرج مبحوحًا. نظرت إليه، بعينين تعرفان كل تفاصيله، وقالت قبل أن يتكلم:
ـ متجاوبنيش… أنا عارفة الرد.
ثم أضافت بابتسامةٍ حزينةٍ تشبه الوداع:
ـ أيوه، إنت ما سألتش، بس عيونك سألت… وسألت كتير.
رفع حاجبيه بدهشةٍ صادقة، صوته خرج خافتًا، يحمل بين حروفه شجنًا دفينًا:
ـ لدرجة دي… فهماني يا حلم؟
ابتسمت هي، بسخريةٍ ممزوجة بمرارة، كأنها تبتلع الغصّة بابتسامةٍ مجبرة، وقالت:
ـ لأ يا مالك… أنا مش بفهمك، أنا بحسّك. بحسّ سكوتك قبل كلامك. نسيت؟ كنت دايمًا تقول “حلم المالك “. أنت مالك قلبي وأنا حلمك! بس الظاهر إنك نسيت إن الحلم كمان بيتعب… وبيفوق.
المشهد الرابع: ما قبل الانهيار
ساد الصمت من جديد. لكن هذه المرة لم يكن صمتًا عابرًا، بل هدنة خائفة بين حربين. نظر إليها طويلًا، يحاول أن يقترب، لكنّ الخوف كبّله.
كانت هي تنظر إليه كأنها تراه للمرة الأولى، رجلًا أنهكه الصمت وضيّعته الكبرياء.
مدّ يده بتردد، ثم سحبها سريعًا، كأن الاقتراب منها خطرٌ لا يُحتمل. قالت بصوتٍ مرتجفٍ، يحمل كل ما تبقى من أمل:
ـ عارف يا مالك… يمكن لو كنا اتكلمنا من بدري، كان زماننا دلوقتي بنضحك بدل ما نسكت.
ابتسم هو بخفوتٍ موجوع:
ـ وأنا اللي كنت فاكر إن السكوت أمان.
قالت وهي تمسح دمعةً أفلتت رغمًا عنها:
ـ السكوت عمره ما كان أمان… السكوت خيانة صامتة، بتقتل فينا الحلم حتة حتة.
المشهد الخامس: حلم المالك
لم يتبادلا بعدها كلمة واحدة، فقط نظراتٌ طويلة مليئة بالندم والاشتياق. كانت الغرفة ما تزال غارقة في السكون، لكن بينهما كان يدور ضجيجٌ لا يُسمع… ضجيج حبٍّ لم يُقال، وحروفٍ ماتت في الحلق.
وفي تلك اللحظة، أدركا الحقيقة الموجعة:
أن العاشقين لا ينهاران من الفراق، بل من كل ما لم يُقال حين كان الكلام قادرًا على الإنقاذ.
ما بعد الصراحة
لم يتحرك أحدهما، كأن الهواء تجمّد بينهما. كانت حُلم تشعر أنّ الكلمات انتهت، لكن الوجع ما زال حيًّا في صدرها، يتنفس بصعوبة. أما مالك فكان يطالع وجهها وكأنه يراه للمرة الأخيرة، يتأمل تفاصيله التي يعرفها عن ظهر قلب، كمن يحفظها ليحتفظ بها في ذاكرته لو رحلت.
تقدّم خطوة، وصوته خرج مبحوحًا، متردّدًا بين الاعتراف والرجاء:
ـ حلم… أنا يمكن غلطت، ويمكن سكت كتير، بس والله ما كان قصدي أوجعك. كنت فاكر إن البعد أهون من وجع الكلام.
نظرت إليه نظرة ممتلئة بالخذلان، ثم قالت بهدوءٍ يشبه النهايات:
ـ بس البعد وجع أكتر يا مالك… البعد بيكسر، بيسيب فراغ جوّه محدش يملأه.
وقفت أمامه بثباتٍ غريب، كأنها لآخر مرة تجمع شتات نفسها، ثم أضافت بصوتٍ خافتٍ:
ـ أنا مكنتش عايزة منك غير أمان… كلمة واحدة بس كانت كفيلة تهديني. بس إنت اخترت السكوت، وسبتني أحارب لوحدي.
اقترب منها خطوة أخرى، عينيه تلمعان بندمٍ صادق:
ـ أنا ما كنتش عارف أعبّر… كل مرة كنت أحاول أقولك، الكلام بيخوني.
ـ ومين قال إني كنت عايزة كلام؟!
قالتها بانفعالٍ مكبوتٍ، ثم أكملت:
ـ كنت عايزة إحساس، نظرة، لمسة تطمنّي. كنت عايزة أحس إنّي لسه حلمك مش ذكرى منسية.
سكت لحظة، ثم همس وكأنه يعترف أمام نفسه قبلها:
ـ وإنتِ كنتِ دايمًا الحلم اللي بحارب عشانه، بس خفت أخسره لو فتحت كل اللي جوايا.
نظرت إليه بعيونٍ تدمع رغم مقاومتها، وقالت:
ـ والخوف اللي خليك تسكت، هو اللي خلانا نخسر.
مدّت يدها ومسحت دموعها بخفة، ثم أضافت بنبرةٍ حزينة:
ـ كل حاجة ليها توقيت يا مالك، حتى البوح… ولما يتأخر، بيفقد معناه.
المشهد السادس عودة الضوء الباهت
عمّ الصمت المكان من جديد، لكن هذه المرة كان مختلفًا، كأنه استراحة بعد عاصفةٍ طويلة.
جلس مالك على الكرسي المقابل، ودفن وجهه بين كفّيه. كانت أنفاسه متقطعة، وكأنه يُخرِج من صدره كل ما كتمه لسنوات.
تقدّمت نحوه ببطء، وجلست أمامه، وقالت بصوتٍ حنونٍ رغم التعب:
ـ أنا ماكرهتكش يا مالك، ولا في يوم كنت ضدك. أنا بس وجعت.
رفع رأسه، وابتسم ابتسامةً هزيلة:
ـ وأنا ما نسيتكيش، ولا حتى ف لحظة.
ـ طب ليه سبتني أتوجّع لوحدي؟
ـ عشان كنت فاكر إنك أقوى… وإنك مش حتتعبي زَيّي.
هزّت رأسها بأسى، وقالت:
ـ وإنتَ كنت فاكر الغياب بيحمي؟ لأ يا مالك، الغياب بيموت، بيسرق مننا اللحظات الحلوة واحدة واحدة.
نظر إليها نظرةً طويلة، وكأنّه يحاول أن يختزن كل تفصيلة في ملامحها قبل أن تضيع، ثم همس بصوتٍ خافتٍ لكنه مليء بالصدق:
ـ لو الزمن يرجع… كنت اخترت أتكلم بدل ما أسكت، كنت اخترت أوجّع لحظة… بدل ما أوجّع عمر.
ابتسمت بحزنٍ خفيف، وقالت:
ـ وأنا كنت اخترت أستناك شوية كمان… بس خلاص، الوجع خلاص استقر.
قامت من مكانها ببطء، ووقفت أمام النافذة، تنظر إلى الشارع الذي غمره الضوء الرمادي.
ثم قالت بصوتٍ خافتٍ لكنه ثابت:
ـ يمكن إحنا اتأخرنا، بس صدقني… كنت حقيقي، حتى في وجعي منك.
تشبه البداية
وقف مالك خلفها، المسافة بينهما قصيرة… لكنها كأنها ألف ميل.
قال بصوتٍ مكسورٍ بالحنين:
ـ تحبي نبدأ من جديد؟
التفتت نحوه، وفي عينيها مزيج من الشوق والخوف، ثم قالت بابتسامةٍ باهتةٍ تحمل نهايةً أكثر من وعد:
ـ يمكن الحلم لو رجع، مايبقاش هو نفسه… يمكن يصحى، بس ما يعرفش يرجع ينام تاني.
اقترب أكثر، مدّ يده نحوها، لكنها تراجعت خطوة، وقالت:
ـ خليك فاكر يا مالك… الحب الحقيقي مش دايم بالصوت، بس لما بيختفي… بيترك صدى عمره ما بيروح.
ثم غادرت الغرفة بخطواتٍ هادئة، تاركة خلفها فنجان قهوةٍ باردٍ، ورجلًا يجلس في صمتٍ ثقيلٍ يراجع كل ما لم يُقال.
أما هو، فابتسم رغم وجعه، وهمس لنفسه:
ـ حلمي… حتى لما بتبعدي، بتفضلي جوايا حلم المالك
وكان هذا الهمس، هو آخر ما تبقّى من قصةٍ أنهكها الصمت، وأحياها الندم.




