مراحل الحب
بقلم صباح البغدادي
المشهد الأول: العشق والجنون
لم أستطع يومًا أن أفهم طبيعة علاقتنا، فكل ما بيننا كان خليطًا من المشاعر المتناقضة؛ حبٌ يسمو على الوصف، وشوقٌ يشتعل بلا هوادة، وطمأنينةٌ تتسلل بين لحظاتٍ من جنونٍ جميل.
كنتُ جالسة في “البرندة”، أراقب السماء وهي تذوب ألوانًا مع غروب الشمس، بينما أفكاري تتشابك حوله كأنها خيوط ضوء لا تنتهي. كان هو يسكن تفاصيل أيامي، يتسلل إلى نبضي دون إذن، حتى صرت لا أميّز بين حبي له ووجودي ذاته.
هو ليس مجرد حبيب، بل صديقي الذي يسمع أنيني قبل أن أنطق، وأخي الذي يحميني من العالم، وزوجي الذي لم تجمعنا الأوراق بعد، لكن جمعتنا الأرواح.
كنتُ أبتسم كلما تذكّرتُ ملامحه، نبرة صوته، ودفء ضحكته التي تشبه المطر بعد عطشٍ طويل.
وفي لحظة شرودٍ عميقة، قطع أفكاري صوت هاتفٍ يهتزّ على الطاولة. نظرتُ إلى الشاشة، فإذا باسمه يلمع أمامي، فارتجف قلبي كما لو كان يطرق بابي لأول مرة.
رفعت الهاتف بيدٍ مترددة، وضحكتُ بخفوت قبل أن أجيب:
“أخيرًا افتكرتني؟”
جاء صوته دافئًا، مفعمًا بالشوق، كأنه يعانقني عبر الأثير:
“هو في حد بينسى روحه؟”
ضحكتُ بخجلٍ واضح، وقلت:
“بس إنت اتأخرت، وأنا كنت خلاص همشي من الدنيا!”
“إزاي تمشي وأنا لسه موصلتش ليكي؟”
صمتنا لحظة، وكأن الهواء نفسه استمع لنا بخشوع.
كان صوته يحمل شيئًا من الحنين وشيئًا من الألم، وقال بعدها بنبرةٍ خافتة:
وحشتيني أكتر مما كنت أتخيل.”
أغمضتُ عيني، وشعرتُ أن المسافة بيننا تذوب كأنها لم تكن، وأن حبه يسكنني حدّ الاختناق الجميل.
في تلك اللحظة فقط، أدركتُ أن العشق ليس جنونًا كما يقولون، بل هو اتزانٌ بين الغياب والحنين، بين الصبر واللهفة، بين أنا وهو… في مرحلةٍ اسمها “الجنون الجميل”.
المشهد الثاني: الغيرة والاشتياق
تسلّل صوته عبر الهاتف كما النسيم يمرّ على جرحٍ ناعم، يحمل دفئًا يبدّد برودة المسافات. ساد بيننا صمتٌ قصير، وكأنّ الكلام يخجل من أن يفسد لحظة الشوق التي تغمرنا.
ثم قال بصوتٍ خفيضٍ مملوءٍ بالصدق:
“عارفة يا لي لي… إنك إنتِ البطلة الوحيدة في حياتي؟”
تجمدت أنفاسي، وابتسمت رغماً عن دمعةٍ حاولت الهرب من عيني. أكمل هو، وكأنه يُلقي اعترافًا عمره سنوات:
“إنتِ أختي قبل صحبتي… اللي بجرى عليها أول ما الدنيا تضيق بيا، وأرمي كل همومي قدامها وهي تتقبل ده بصدر رحب.
وإنتِ حبيبتي قبل عشيقتي… اللي بتحتويني وتفهمني حتى من غير ما أتكلم.
وزوجتي اللي ربنا أنعم عليا بيها… اللي على عتبة بابها أرمي نفسي في حضنها وأنسى العالم كله.”
ارتجف صوتي وأنا أجيبه بخفوتٍ يخالطه دموع:
“كفاية يا عبد الرحمن، هتخليني أصدق إنك لسه بتحبني بنفس الشوق ده.”
ضحك من قلبه، ضحكة صافية جعلتني أبتسم رغماً عن كل التعب، وقال بنغمةٍ ما بين المزاح والجدّ:
“هو أنا يوم نسيت؟ ده حتى الغيرة بتفكرني بيكي، والاشتياق بيعاقبني لو غبت لحظة.”
قلت له هامسة:
“وأنا كل مرة أقول خلاص اتعودت، ألاقي قلبي بيخوني أول ما أسمع صوتك.”
ردّ بابتسامةٍ أستشعرها رغم البعد:
“يبقى لسه الحب زي ما هو… ولسه إحنا في المرحلة اللي بعدها من الجنون، مرحلة الغيرة والاشتياق.”
كان صوته آخر ما سمعته قبل أن أغلق الهاتف ببطء، وأنا أضعه على صدري كأنّي أحتضن كلماته.
وفي داخلي يقين واحد: أن الحب بيننا لم يكن صدفة، بل قدرٌ مكتوب بحروف من شوقٍ لا ينتهي.
المشهد الثالث: الفقد والخوف من الرحيل
تسللت أنفاسي المتقطعة بين كلماتٍ عالقة في الحلق، فالصمت بيني وبينه صار كأنه اعترافٌ من نوعٍ آخر.
سمعت صوتي يرتجف وأنا أقول له بحنينٍ غلبه الشوق:
“إنت يا عبد الرحمن… حتّة أمان في طريق كله خوف.
اللي بتمنى يوم تاخد فيه إجازة من شغلك وتقعد معايا، من غير حساب للوقت ولا الناس.
إنت وحشتني، وصعب قلبي يسألني عليك كل مرة، وأنا مش لاقية ليك ردّ غير كلمة واحدة: وحشتني.”
سكتُّ لحظة، ثم أضفت بصوتٍ تغلب عليه العَبرة:
“بس لما أقولك وحشتني، مش مجرد كلمة والسلام.
وحشتني يعني أنا وحشة من غيرك، الدنيا كلها وحشة من غيرك.”
عمّ الصمت للحظات، لم أسمع سوى أنفاسه الثقيلة من الطرف الآخر، كأنه يحاول يحتضن الكلام بنظراته.
ثم قال بهدوءٍ مفعمٍ بالحب:
“يا لي لي… أنا برجع للحياة لما أسمع صوتك، وبرتاح لما أفتكر إنك لسه هنا.
يمكن الشغل بيبعدني، بس والله ولا لحظة من يومي بتعدي إلا وأنا شايفك في بالي، سامع ضحكتك، حاسس بيكي.”
أغمضتُ عيني، وكأن كلماته لامست قلبي. أحسست بدفءٍ غريب يسري فيّ، يُطفئ كل وجعي.
قلت له بخفوتٍ مائلٍ للرجاء:
“متغيبش عني تاني، أنا بخاف من اليوم اللي ما اسمعش فيه صوتك.”
فأجابني بابتسامةٍ حملها صوته:
“وعد، ما دام قلبك في الدنيا، مش ممكن أتأخر عنك.”
كانت تلك الجملة كعهدٍ بيننا، كأنها صلاة حبٍّ نُقشت على جدار القلب، تُقاوم الفقد والخوف من الرحيل.
المشهد الرابع: اللقاء بعد الفراق
مرّت الأيام ببطءٍ موجِع، كأنّ عقارب الساعة تثقلها المسافات. كنت أعيش على فتات صوتٍ مسجَّل منه، وعلى صورٍ تتكرر أمامي كلما اشتقت، حتى صرت أفتقد حتى صوته وهو يغضب، ونبرته وهو يضحك، وتنهيدته قبل النوم.
وفي صباحٍ مشرقٍ خادع، رنّ الهاتف، نظرت إليه وأنا بين الحلم واليقظة… كان هو.
قال بصوتٍ يختلط بالابتسامة:
“جاهزة تشوفيني ولا لسه بتزعلي؟”
لم أفهم، ظننتها مزحة، فقلت بخفة:
“أشوفك إزاي؟ أنت في بلد وأنا في بلد!”
ضحك بخفوتٍ وقال:
“افتحي الباب يا لي لي، يمكن المعجزة حصلت.”
توقّف الزمن لحظة، قلبي خفق كأنه سمع اسمه ينادي من بعيد. هرعت نحو الباب، فتحته، وهناك… كان يقف أمامي.
عبد الرحمن.
بعينيه نفس البريق الذي يُشعلني من الداخل، وبابتسامته التي تُعيد للحياة معناها.
لم أتمالك نفسي، انهمرت دموعي دون إذن، فاقترب بخطواتٍ هادئة وقال بصوته الذي يشبه الأمان:
“قولتلك، وعدي ما بينكسرش.”
رمقتُه بدهشةٍ وارتجاف، ثم همست وأنا أضع يدي على صدره:
“كنت حاسة إنك راجع، قلبي كان بيقولي إنك قريب.”
ضمّني إليه بقوةٍ وكأن العالم كله غاب، وقال بخفوتٍ محمّلٍ بالحنين:
“اتأخرت، بس رجعت، ورجوعي ده بداية جديدة. إحنا ما خلصناش يا لي لي… إحنا لسه بنبدأ المرحلة الأخيرة، مرحلة الخلود.”
أحطتُ وجهه بكفّي، أنظر إلى ملامحه التي حُفرت في روحي، وقلت له بصوتٍ يغلبه البكاء:
“كنت دايمًا أقول إن الحب مراحل، بس لما وصلتلك… عرفت إن آخر مرحلة هي الأبد.”
ابتسم وقال:
“الأبد اللي بيبدأ دلوقتي.”
وأغلق المسافة بيننا بقبلةٍ ناعمةٍ على جبيني، كأنها ختم الوعد الأخير.
كان الغروب يلوّن السماء، وصوت البحر من بعيد يهمس بلحنٍ يشبه السلام.
وهكذا انتهت كل مراحل الحب…
لتبدأ مرحلة واحدة فقط، لا تُقاس بالوقت ولا بالكلمات…
مرحلة اسمها نحن.
للمزيد من القصص والمقالات المميزة ✨
تابعونا على
عوالم من الخيال





الله تحفه بتجنن كتيييير اسمتري يا افضل كاتبة بالعالم وانا هادعمك دائما
يخليلي ياك ودعمك♡♡