المجانين في نعيم (قصة قصيرة 1)

المجانين في نعيم

بقلم: صباح البغدادي

 

 

المشهد الأول: كافيه المجانين

 

كانت شمس الصبح لسه بتتحايل تدخل من زجاج الكافيه، ريحة البن والنسكافيه مالية المكان، وأنا واقف ورا الكاونتر ماسك الفوطة في إيدي وبمسح الطربيزة بحركة روتينية ودماغي بتغلي من الزحمة اللي جاية علينا.

بصيت ناحية الباب ولقيت مروان داخل وهو بيتمطّى كأنه لسه صاحي من نوم عميق، شعره منكوش ووشه فيه آثار المخدة.

 

قلت له وأنا مكشر:

كنت فين يا مروان؟ عندنا شغل كتير وناس منتظرة الطلبات.

 

رد عليّ بكل برود وهو بيعدل هدومه:

كنت نايم يا حمزة، عايز إيه يعني؟ الواحد ماينامش ولا إيه؟

 

نفخت غصب عني وكنت ناوي أرد، بس فجأة الباب فتح ودخلوا زباين جداد. بصّيت له نظرة معناها ركز بقى وعدّل دماغك، عندنا ناس.

 

الزبون الأول قرب وقال بهدوء:

لو سمحت، عايز كوكتيل عصير فريش.

 

مروان بص له بنظرة تايهة كأنه مش فاهم هو فين أصلاً، وأنا من وراه لمّحت للزبون بإيدي كده على خفيف إني أهوه… مش طبيعي أوي يعني، استحملوه شوية.

 

الزبون بصلي باستغراب، وأنا ماسك ضحكتي بالعافية، ومروان شكله بدأ يفوق شويّة فقرر يمشي اللعبة عليا.

شد ملامحه وقال بجدية مصطنعة:

حاضر يا فندم، هعملك كوكتيل يخليك تشوف ألوان ما شفتهاش قبل كده.

 

الزبون بص له بخوف وقال لي بصوت واطي:

هو… هو كده دايمًا؟

قلت له وأنا بحاول أتماسك:

لأ يا باشا، ده البركة بتاعت المكان، لو مشي من غير ما يضحك، الكافيه بيبوظ!

 

الزبون حاول يبتسم وهو مش فاهم إذا كان بيهزر ولا بيتكلم بجد.

مروان في اللحظة دي راح ماسك الخلاط، بس بدل ما يحط الفواكه، مسك الخيار والطماطم واللبن!

 

صرخت فيه وأنا بخبط على الكاونتر:

يا مروان يا مجنون! هو العصير ده ولا سلطة بلدي؟

 

ضحك الزبون غصب عنه وقال:

لا لا، واضح فعلاً إن عندكم روح حلوة.

 

رد مروان بسرعة وهو بيضحك:

روح حلوة؟ دي أرواح بتتخانق جوا دماغي يا باشا، بس بنحاول نرضي الجميع.

 

ضحكنا كلنا، والجو بقى خفيف، والزبون في الآخر قال:

طالما العصير جاي من مجنون، أكيد هيطلع عبقري!

 

ضحكنا جامد لدرجة إن الناس اللي قاعدة بصّت علينا من كل ناحية، وأنا بصيت لمروان وقلت بيني وبين نفسي:

آه يا صاحبي، يمكن فعلاً إحنا مجانين… بس المجانين في نعيم.

 

المشهد الثاني: الزبونة الغامضة

 

كان الكافيه هادي شوية بعد الموجة الصباحية، المراوح بتلف بصوت خفيف، وأنا ومروان قاعدين بنراجع الفواتير. فجأة، الباب اتفتح على صوت كعب جزمة بيدق في الأرض بإيقاع ثابت كأنه موسيقى بتعلن عن دخول شخصية مهمة.

 

بصيت ناحيتها، لقيت بنت لابسة نضارة سودة، شعرها طويل وناعم، وملامحها فيها ثقة غريبة. كانت ماشية بخطوات محسوبة، وعيون كل الزباين اتشدت ليها من غير ما تحاول تلفت الانتباه.

 

مروان همس لي بصوت واطي وهو بيقرب مني:

دي مش شكل زبونة عادية يا حمزة، دي شكلها جاية تحقق في جريمة قتل… ولا جاية تقيّمنا من وزارة السياحة؟

 

كتمت ضحكتي بالعافية وردّيت عليه وأنا بحاول أبين الجدية:

خليك مؤدب، يمكن جاية تتفسّح زي الناس.

 

البنت وقفت عند الكاونتر وقالت بنغمة هادية وواثقة:

لو سمحت، عايزة قهوة تركي سادة… بس تكون تقيلة.

 

مروان رد بسرعة قبل ما أتكلم:

تقيلة؟ حاضر يا فندم، عندنا نوعين: تقيلة عالزعل ولا عالنسيان؟

 

هي بصّت له باستغراب وقالت:

يعني إيه؟

 

ابتسم وقال:

أصل في ناس بتشرب القهوة عشان تصحى، وناس بتشربها عشان تنسى… حضرتك من أي فريق؟

 

ابتسمت بخفة لأول مرة وقالت:

يمكن من الاتنين.

 

وقتها أنا حسّيت إن الكافيه كله اتغيّر، الجو بقى فيه حاجة غريبة، كأنها شايلة قصة ورا القهوة دي.

رجعت للطربيزة اللي وراها مروان، قلت له:

شغل دماغك في الشغل، مش كل زبونة تدخل تعمل منها فيلم.

 

رد وهو بيضحك وبيصب القهوة:

يا عم أنا حاسس إن دي واحدة من رواياتك، فاكر لما قلتلي نفسك تقابل بنت غامضة تغيّر مجرى اليوم؟ أهو ربنا بعتلك النسخة الأصلية.

 

البنت كانت قاعدة لوحدها، بتبص في فنجانها كأنها بتقرأ المستقبل، ومروان راح يوصل الطلب وهو عامل فيها نادل بروفيشنال.

 

قال لها:

القهوة دي مخصوص من إيدي، معمولة بدقة زي قنبلة موقوتة… بس الفرق إنها بتفجر النعاس مش الناس.

 

ضحكت وقالت له:

شكلك بتحب الكلام أكتر من القهوة.

 

قال:

لأ، أنا بحب الزباين اللي بيضحكوا، أصل حمزة بيقول عليا مجنون، وأنا باعتبر الضحك علاجي النفسي.

 

أنا من بعيد كنت متابع المشهد، ومش قادر أمنع نفسي من الابتسامة، لأن دي طبيعتنا… كل حاجة في الكافيه عندنا بتبدأ عادية وتنتهي بمسلسل كوميدي.

 

بعد شوية، البنت قامت، سابت الحساب وكارت صغير مكتوب عليه بخط أنيق:

“أجمل ما في الجنون… إنه بيخلي الناس حقيقيين.”

 

مروان مسك الكارت ورفع حاجبه وقال لي:

حمزة… هو إحنا اتشخّصنا ولا اتغزل فينا؟

 

ضحكت وقلت له وأنا بأخد الكارت:

يمكن الاتنين يا صاحبي، يمكن الاتنين…

المشهد الثالث: المجنون والزبون العصبي

 

كان النهار داخل في عز الحر، والمروحة السقفية صوتها عامل زي طيارة هتقلع من فوق دماغنا. الزباين قاعدين أغلبهم متنرفز من الحر، وأنا ومروان بنجري بين الطاولات نحاول نرضي الكل.

 

دخل زبون جديد، شكله كان متضايق من أول لحظة، لابس بدلة سودة ووشه مكشّر كأنه طالع من خناقة مع الدنيا كلها.

قعد على أقرب طرابيزة وهو بيقول بصوت حاد:

واحد عصير برتقال… بس بسرعة، عشان ورايا ميت مشوار.

 

مروان سمعه وهو بيشرب ميّة، قام وراح له بخطوات واثقة وقال له:

حاضر يا فندم، بس تحب العصير يكون برتقال عادي ولا برتقال مزاج؟

 

الزبون رفع حاجبه وقال له بحدة:

هو في فرق؟

 

مروان ابتسم وقال:

أيوه طبعًا، العادي بينزل على المعدة، المزاج بينزل على القلب!

 

الزبون بص له بحدة وقال:

ما عنديش لا قلب ولا مزاج، خلّيه عادي.

 

أنا كنت شايف الحوار من بعيد وحاسس إن العاصفة جاية، فقربت بسرعة وقلت لمروان بصوت واطي:

بالله عليك خلّيها تعدي على خير، الزبون شكله هينفجر في وشنا.

 

ردّ عليا وهو بيهمس:

ما تقلقش يا حمزة، أنا هعرف أتعامل…

 

رجع مروان بعد خمس دقايق بالعصير، بس كالعادة، قرر يحط بصمته الفنية. جاب العصير في كباية طويلة، وعليها شريحة برتقال معمولة على شكل وش بيضحك، وعلم العصاير حاطط فوقها شال صغير من منديل مناديل، ووراه رسم كاريكاتير صغير على الصينيّة مكتوب عليه: “ابتسم قبل ما العصير يبرد.”

 

الزبون أول ما شاف المنظر، وشه اتبدّل كأنه مش مصدق اللي شايفه. قال له بنبرة عصبية:

هو أنا في سيرك ولا في كافيه؟

 

مروان ابتسم وقال بمنتهى الهدوء:

لأ يا فندم، إحنا الكافيه الوحيد اللي بيقدّم السعادة على شكل عصير.

 

الزبون قال بغضب:

أنا طالبت عصير مش نكت!

 

قلت بسرعة وأنا بحاول ألطف الجو:

حقك علينا يا باشا، هو بس بيحب يرسم ابتسامة على وش الناس.

 

الزبون قال:

أنا مش ناقص ابتسامات، أنا ناقص هدوء!

 

وقتها مروان قال له بهدوء غريب:

طيب خلاص يا فندم، أغمض عينيك وعدّ لحد عشرة، لو فضلت زعلان بعدهم، العصير عليّا.

 

الزبون فعلاً غمض عينيه وهو بيتنفس بعمق، وأنا في سري بدعي ربنا يعدّي اليوم على خير. بعد عشر ثواني فتح عينيه… وبص للعصير وضحك!

 

قال له:

يا ابني إنت فعلاً مجنون، بس والله دمك خفيف.

 

مروان رفع كباية الميّة اللي في إيده وقال:

أهو ده الكلام، المجانين في نعيم يا فندم، وحضرتك بقيت واحد مننا دلوقتي.

 

الزبون شرب العصير، ساب بقشيش محترم جدًا، وقال لي وهو ماشي:

حافظوا على الجنون ده… أصل العُقَلاء بقوا مملين.

 

بصيت لمروان بعد ما خرج وقلت له وأنا بابتسم:

والله يا ابني، أنت هتودّينا في داهية يوم… بس داهية حلوة.

 

ضحك وقال:

طول ما احنا مجانين سعادة، يبقى الدنيا بخير يا حمزة.

المشهد الرابع: زيارة التفتيش المفاجئة

 

كان اليوم ماشي تمام، الزباين مبسوطين، والمزيكا شغالة على واطي، لحد ما الباب اتفتح فجأة ودخل راجلين لابسين بدلات رسمية ومعاهم شنط صغيرة وأوراق كتير.

بصيت لمروان بخوف وقلت له بصوت واطي:

يا نهار أبيض! دي لجنة تفتيش يا مروان… شد حيلك، حاول تبقى طبيعي شوية.

 

مروان رفع حاجبه وقال:

طبيعي؟ ده أنت كده بتطلب المستحيل يا حمزة!

 

قرب واحد منهم وقال بجدية:

إحنا من الإدارة المركزية لمتابعة المقاهي. زيارة مفاجئة للتأكد من التراخيص والنظافة وجودة الخدمة.

 

ابتسمت وأنا بحاول أخبي توتري:

أهلاً وسهلاً يا فندم، نورتونا. كله تمام الحمد لله.

 

في اللحظة دي، مروان كان بيحاول ينظف الترابيزة بسرعة، بس كعادته لازم يعمل كارثة.

وقع عليه جردل الميّة!

المكان كله بقى مبلول، وهو واقف مبتل من شعره لحد جزمه، وبيضحك ضحكة هستيرية!

 

المفتش بصله بدهشة وقال:

حضرتك بتضحك ليه؟!

 

مروان قال وهو بيكح من الضحك:

أصلنا بنؤمن إن النظافة مش بس في المكان… دي كمان في الروح يا فندم!

 

أنا مسكت نفسي بالعافية من الضحك وقلت بسرعة:

هو عنده حس فكاهي عالي يا فندم، بيريّح الجو كده.

 

المفتش التاني كان بيبص في قائمة الأسعار وقال لي:

الأسعار مناسبة… بس إيه معنى “قهوة السعادة” و”عصير المجانين”؟

 

مروان دخل في الكلام بسرعة وقال:

دي مش مجرد مشروبات يا فندم، دي وصفات علاجية!

القهوة بتعلّم الناس الصبر، والعصير بيعالج النكد المزمن!

 

المفتش الأول بص لتاني وقال:

شكلهم فعلاً مجانين…

 

مروان رفع صوته بابتسامة عريضة:

أيوه يا فندم، إحنا المجانين في نعيم… بس والله الزباين بيحبونا!

 

ضحك المفتشين رغمًا عنهم، وقال أحدهم وهو بيكتب في الورق:

تقريرنا هيكون بسيط… المكان مجنون بس آمن، والخدمة ممتازة رغم العبط الواضح!

 

بعد ما خرجوا، قعدنا أنا ومروان نضحك لحد ما دموعنا نزلت.

قلت له وأنا بمسح عرقي:

يا ابني، إحنا كل يوم بنعدي من الكوارث بمعجزة.

 

مروان قال وهو بيشرب مية:

عارف يا حمزة؟ يمكن ده سر نجاحنا… إننا مش بنخاف من الجنون، إحنا بنعيشه!

 

بصيت حواليّ على الكافيه، على الضحك اللي مالي المكان، وقلت في نفسي:

يمكن فعلاً… المجانين هما اللي عايشين النعيم الحقيقي.

للمزيد من القصص والمقالات المميزة ✨
تابعونا على
عوالم من الخيال



تابعونا على فيسبوك

Visited 2 times, 1 visit(s) today

2 تعليقات

  1. أكييييد م غيرهم الدنيا بتكون بطعم الملل والزهق

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *