انتهى الحب وبقي الأثر(قصة قصيرة 2)

انتهى الحب وبقي الأثر

    حب خاطئ
    تجربة مؤلمة أن بعض القلوب تُحب خطأً، لكن الخطأ نفسه يُعيد تعريف الحب في داخلنا. بين عودة صديقة قديمة وذكرياتٍ لا تموت، تعلّمت أن الأثر أحيانًا أصدق من الحب نفسه.

بقلم: صباح البغدادي

 

 

المشهد الأول: عودة غير متوقعة

 

ازدحمت أيامي بين الملفات والمكالمات والاجتماعات الطويلة، حتى نسيت نفسي بين أروقة العمل وضجيج المهام التي لا تنتهي.

لكن رغم كل ذلك الزحام، كانت هناك مساحة صغيرة في قلبي… ظلّت تحمل اسمها. تارا.

 

صديقتي القديمة التي غابت عني لسنواتٍ طويلة، بعد سوء فهمٍ بسيطٍ كبر مع الزمن حتى صار جدارًا بيننا.

لم أتوقّع أن الحياة ستُعيدها إليّ، ولا أن القدر ما زال يحتفظ لنا بفصلٍ آخر.

 

بينما كنت أرتشف قهوتي بعد نهارٍ مرهق، وصلتني رسالة قصيرة عبر الهاتف:

أنا في القاهرة… نفسي أشوفك.

 

قرأت الرسالة مرارًا، دون أن أصدّق.

هل يُعقل؟ بعد كل هذه السنوات؟

رددت ببرودٍ لم أتعمده:

انتي فعلاً هنا؟ ليه دلوقتي؟

 

جاء صوتها المرتبك عبر الهاتف، مفعمًا بحنينٍ خافت:

كنت بدوّر عليكي من زمان… ما كنتش عارفة أوصلك.

 

تراجعت نبرتي القاسية حين سمعت رجفة صوتها، وكأن شيئًا ما في قلبي لان فجأة.

وافقت أن ألتقيها، ربما بدافع الفضول، أو الحنين، أو لأغلق الباب الذي ظل مواربًا في ذاكرتي.

 

 

 

المشهد الثاني: ما بين العتاب والدموع

 

جلسنا وجهًا لوجه في المقهى ذاته الذي كنا نرتاده أيام الجامعة.

كانت ملامحها تغيّرت قليلًا، لكن عينيها بقيتا كما هما… دافئتين تحملان ألف حكاية.

 

بدأت هي الكلام بصوتٍ خافت:

أنا ما كنتش عايزة أسيبك… بس كنت مكسوفة أشرح، كنت فاكرة إنك زعلانه مني.

 

نظرتُ إليها طويلاً، أتأمل ملامحها التي كانت يومًا مرآتي، وقلت بهدوءٍ يحمل ما بين الغضب والعطف:

كنت محتاجه منك كلمة بس، كلمه توضحلي… بس سكوتك وجعني.

 

أطرقت رأسها، ثم همست:

يمكن كنت خايفة من ردك… بس والله، ما كان قصدي أوجعك.

 

سكتُّ، وأنا أسترجع في ذهني كل لحظة ضحك جمعتنا، وكل فراقٍ مكسور بيننا.

ثم قلت بابتسامةٍ خفيفة:

خلاص يا تارا، اللي فات مات… نبدأ من جديد.

 

ابتسمت ودموعها تلمع:

وحشتيني قوي.

 

ضحكت وأنا أمسح دموعها:

وأنتِ كمان يا مجنونة… رجعتيلي بعد عمر.

 

 

 

المشهد الثالث: فضول الأنثى

 

عدنا نتحدث كأن الزمن لم يمرّ، نضحك ونتبادل الذكريات والقصص.

لكن في وسط الحديث، لمحت نظرة فضول في عينيها، فابتسمت وسألتني بخبثٍ أنثوي:

احكيلي بقى… مين اللي قدر يسرق قلبك؟ انتي اللي كنتي بتقولي الحب مش من أولوياتك.

 

ضحكتُ بخجل، وأنا أشيح بصري عنها:

ماسرقوش… دخل بهدوء كده، من غير ما ألاحظ.

 

رفعت حاجبها بدهشة:

يعني حب من غير تخطيط؟ ده مش شبهك خالص.

 

أجبتها بابتسامةٍ حزينة:

ولا هو حب عادي… هو كان مختلف، يمكن لأنه جالي وأنا مش جاهزة، بس رغم كده ساب أثر فيّ مش بيروح.

 

اقتربت مني أكثر وقالت بفضولٍ صادق:

انتي لسه بتحبيه؟

 

صمتُّ قليلًا، ثم تنهدت:

انتهى الحب يا تارا… بس بقي الأثر.

 

 

 

المشهد الرابع: الأثر الذي لا يزول

 

بعد اللقاء، عدت إلى غرفتي وجلست أمام النافذة أراقب أضواء المدينة تتلألأ في العتمة.

تذكّرت كلماتي الأخيرة، وشعرت بصدقها أكثر من أي وقتٍ مضى.

نعم، انتهى الحب، لكن بعض القصص لا تُدفن، تبقى بين السطور، في نغمة أغنية، أو في اسمٍ يمرّ صدفة في الشارع.

 

كانت تارا سببًا في أن أفتح تلك الذاكرة المغلقة، لا لتؤلمني، بل لأفهم أن بعض العلاقات لا تموت، بل تتحوّل… إلى أثرٍ هادئٍ يسكن الروح.

 

أمسكت هاتفي، وكتبت في مفكّرتي جملة واحدة فقط:

“بعض النهايات ليست خسارة… بل بداية لفهمٍ جديدٍ للحب.”

المشهد الخامس: نزهة الهروب من الواقع

 

كان صباح اليوم التالي أكثر هدوءًا من المعتاد، نسيمٌ لطيفٌ يمرّ بين ستائري كأنه يهمس لي ببدء صفحة جديدة.

لكن الهاتف قطع سكون اللحظة بنغمةٍ أعرفها جيدًا… تارا.

 

رددت وأنا أبتسم نصف ابتسامة:

صباح الخير يا مجنونة.

 

جاء صوتها على الطرف الآخر مليئًا بالحيوية:

صباح النور يا نادين، قومي يلا، أنا جايه أخدك نتفسح، العمر بيخلص بس الشغل لأ، ده الشغل اللي بيخلص علينا!

 

ضحكتُ من عبارتها المألوفة التي طالما كانت تُرددها أيام الجامعة، وأجبتها:

هو انتي فاكرة عندي وقت أتنفس حتى؟

 

قالت بمرحٍ مشاكس:

خلاص بقى يا ست نادين، أنا مش هاخد رأيك انتي خارجة معايا يعني خارجة، بس قبل ما نبدأ اليوم الجميل ده… احكيلي عن حبيبك.

 

ثم أتبعت جملتها بغمزةٍ شقية جعلتني أضحك رغم كل التعب.

 

 

 

المشهد السادس: حب خاطئ

 

جلست بجوارها في السيارة، والمدينة تمرّ أمامنا كأنها شريط ذكرياتٍ متداخلٍ بالألوان والضباب.

تنهدت بعمق، نظرتُ من النافذة، ثم قلت بصوتٍ خافتٍ يشوبه الأسى:

شوفي يا تارا، هو تفكيره صعب جدًا… بيقول إنه بيفهمني، بس هو أبعد ما يكون عن الفهم الحقيقي.

 

التفتت إليّ وقالت باهتمامٍ صادق:

ازاي يعني؟

 

ابتسمت بمرارة:

أنا اللي بخده على قد عقله… بوهمه إنه بيفهمني، عشان ما يتعبش ولا يتخانق. بس الحقيقة… قلبي هو اللي حبه، رغم إني كنت عارفه من البداية إنه حب خاطئ.

 

صمتت قليلًا ثم أكملت:

تصدقي؟ حتى لما نزلت استوري وأنا تعبانه مجرد برد بسيط ما قالش حتى “ألف سلامة”. كأنه بس بيخاف عليا لما نكون مع بعض، لكن وقت الزعل أو الفراق… بيتحول لإنسان تاني.

 

قالت تارا بنبرةٍ حزينة:

يعني ما سألش؟ ولا حتى رسالة؟

 

هززت رأسي نافية:

ولا كأنه كان في بينا حب… وقتها حسّيت إن اللي بينا مش حب، دي كانت حاجه تاني، يمكن تعلق، يمكن عادة. الحب الحقيقي ما يعرفش الغياب ولا الإهمال.

اللي بيحب بيسأل، بيخاف، بيزعل لما يشوفك موجوعة… مش يختفي ويسيبك لوحدك.

 

سكتت تارا، ووضعت يدها فوق يدي بلطف، ثم همست:

انتي قوية يا نادين، بس انتي لسه موجوعة منه.

 

ابتسمت بخفوتٍ وأنا أتنفس بعمق:

وجعي مش منه، يا تارا… وجعي من نفسي لأني صدّقت إن ده حب. دلوقتي فهمت إن اللي يوجعك ما يستحقش قلبك.

 

ثم أضفت بابتسامةٍ حزينة:

حبنا كان له عنوان واحد… حب خاطئ.

 

 

المشهد السابع: لحظة وعي

 

مرّت لحظة صمتٍ بيننا، قبل أن تهمس تارا بصدقٍ عفوي:

بس يمكن كان لازم تعيشي التجربة دي، عشان تعرفي إيه هو الحب الحقيقي.

 

نظرت إليها وقلت بابتسامةٍ خفيفةٍ ممزوجة بالحكمة:

يمكن فعلاً… يمكن ربنا بعته عشان أتعلم إن الحب مش بس مشاعر، ده كمان أمان واهتمام وموقف وقت الوجع.

 

ثم نظرت للسماء من نافذة السيارة، وقلت وكأنني أحدث نفسي:

انتهى الحب يا تارا… لكن بقي الأثر. أثر يوجع أوقات، بس كمان يعلّم.

 

ابتسمت تارا وربّتت على كتفي قائلة بمرحٍ يعيد بعض الدفء إلى الأجواء:

خلاص بقى يا نادين، كفايه وجع قلوب النهارده… يلا بينا ننسى الهم ده ونعيش يومنا.

 

ضحكتُ من قلبي هذه المرة، وقلت:

ماشي يا مجنونة… بس المره دي إنتِ اللي تدفعي القهوة!

 

انتهى الحب وبقي الأثر

قصة عن نادين التي أيقنت بعد تجربة مؤلمة أن بعض القلوب تُحب خطأً، لكن الخطأ نفسه يُعيد تعريف الحب في داخلنا. بين عودة صديقة قديمة وذكرياتٍ لا تموت، تعلّمت أن الأثر أحيانًا أصدق من الحب نفسه.

هل يُمكن أن يلتئم القلب من حب خاطئ… أم أن بعض الآثار تُولد لتبقى؟!.

للمزيد من القصص والمقالات المميزة ✨
تابعونا على
عوالم من الخيال



تابعونا على فيسبوك

Visited 2 times, 1 visit(s) today

2 تعليقات

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *