المدينة التي لا تموت (قصة قصيرة 2)

 



المدينة التي لا تموت

للكاتبة صباح البغدادي

المشهد الأول: جوع لا يهدأ

بعد منتصف الليل، حين تنام العيون وتغرق الأرض في سكونٍ مريب، هناك مَن لا يعرف للنوم طريقًا.

في الغابات الشمالية الممتدة على ساحل المحيط الأطلسي، ينهض الوينديغو من سباته.

أجسادٌ نحيلة كالأشباح، أنفاسهم كريهة، وعيونهم جامدة كجليدٍ لا يذوب.

يتغذّون على لحم البشر، ينهشون الجثث كما لو كانت وليمةً من رغباتهم القاتلة.

أسطورةٌ قديمةٌ تقول إنهم أرواح شرهة تملك الإنسان حتى تجعله مجنونًا بالجوع، لا يشبع مهما أكل، حتى يتحوّل إلى وحشٍ مثلهم.

قال الأطباء النفسيون إن “الوينديغو” ربما يكون مرضًا ثقافيًّا يصيب بعض الشعوب القديمة، لكنه عند من شاهده ليس أسطورة، بل كابوسٌ يتنفس.

كان الليل صامتًا إلا من أصوات الغابات. أشجارٌ تتمايل، ورياحٌ تعصف وكأنها تهمس:

“هنا يسكن الجوع الأبدي…”

 المشهد الثاني: الرحلة إلى المجهول

في صباحٍ رماديٍّ فوق مياه الأطلسي، كانت هيلين وزوجها ماركوس على متن سفينتهما الصغيرة، يسجّلان تفاصيل رحلةٍ جديدة في سجل استكشافاتهما.

كانا يعشقان المغامرة كمن يعشق الخطر، يسافران ليكتشفا المجهول، ويتتبعان آثار الحكايات التي حكتها الأساطير القديمة.

توقّفت هيلين فجأة، ويدها تمسك بأنفها.

هيلين: ماركوس… استنّى شوي… في ريحة غريبة جدًا.

ماركوس: ريحة؟! يمكن من البحر يا حبيبتي، إحنا وسط المحيط.

هيلين: لا… دي مش ريحة بحر… دي ريحة ميتة!

لم تكمل جملتها حتى تجمّدت الكلمات في حلقها. هناك، على حافة السفينة، كان يقف كائنٌ متعفّن، جلده متهتك، وعيناه كالجمر، يتنفس بصوتٍ أجشّ، كأنّه خرج من قبرٍ للتوّ.

ماركوس ثبت نظره عليه، ثم التفت إليها بصوتٍ خافت:

ماركوس: فاكرة لما رحنا تركيا عشان نشوف زهرة الهالفيتي؟

هيلين نظرت له بدهشة: ماركوس… إنت ليه بتتكلم عن دا دلوقتي؟!

ماركوس: لأن كل مرّة بشوف حاجة غريبة… بتكون البداية قبل النهاية.

كانت هيلين تفهمه دون كلام، حملت السلاح الذي يُستخدم للطوارئ، واستعدت معه.

لكن الوحش لم يهاجمهم وحده. من بين الأمواج، خرج آخرون.

 المشهد الثالث: الحيوان الملعون

قبل أن يلمس الوينديغو السفينة، دوّى صراخٌ غريب، كأنّ الغابة نفسها تصرخ.

خرج حيوان ضخم كثيف الشعر، عيناه لامعتان كالنار. انقضّ على الوينديغو ونهش لحمه حتى سقط جثةً هامدة.

هيلين شهقت بخوف: ماركوس! دا… دا إيه دا؟!

ماركوس: مش عارف… بس شكله بيهاجم الوينديغو… مش إحنا!

وقف الاثنان مذهولين، يشاهدان المشهد الغريب. وبعد لحظاتٍ معدودة، بدأ الحيوان في تجديد جسده!

اللحم الذي تمزّق أعاد تكوين نفسه ببطءٍ مرعب.

ماركوس تذكّر فجأة الكتاب الذي قرأه قديمًا، وقال بصوتٍ متقطّع:

دا الحيوان المسموم… اللي بيقدر يمتصّ سمّ الوحوش عشان يعيش بيه… هو اللي أنقذنا يا هيلين.

 المشهد الرابع: ما بعد الرحلة

في طريق العودة، كانت الطائرة تشق الغيوم، والهدوء يعمّ المكان.

هيلين كانت تنظر من النافذة، ابتسامتها مشتعلة كأنها تخبّئ سِرًّا جديدًا.

هيلين: ماركوس… حبيبي.

ماركوس: هاه؟ خير يا مجنونة؟ شكل في حاجة في بالك تاني.

هيلين ضحكت بخبث: في مدينة نفسي أروحها المرة الجاية… بيقولوا فيها ناس… بيشربوا الدم بدل المي.

ماركوس رفع حاجبه بدهشة: يعني مصاصين دماء؟! يا بنت إنتِ مجنونة؟! مش كفاية اللي شفناه في المحيط؟!

هيلين: هو إحنا اتجوزنا ليه؟ مش عشان أجننك وأعيش معاك المغامرة؟!

ضحك ماركوس بخفوتٍ، ثم نظر إليها طويلاً:

أهو انتي لعنة حلوة يا هيلين… كل مرة بتسحبيني لعالمٍ جديد، وأنا برجع أحبك أكتر.

التفتت إليه بعينين تلمعان بالغموض، وقالت وهي تهمس:

استعد يا ماركوس… الرحلة الجاية… للمدينة التي لا تموت.

المشهد الخامس : الرحلة إلى المدينة التي لا تموت

مرت أسابيع على عودتهما من المحيط، لكن هيلين لم تهدأ.

كانت كل ليلة تجلس قرب النافذة، تُقلّب صفحات كتبٍ قديمة عن الأساطير الأوروبية، تبحث بعينٍ متلهفة عن “المدينة التي لا تموت”.

كانت تلك المدينة، حسب ما قرأت، تُعرف في الخرائط القديمة باسم “كارمينا”، مدينة يلفّها الضباب، لا يُشرق فيها الصباح، ويقال إن سكانها لا يهرمون ولا يموتون.

ماركوس دخل الغرفة وهو يحمل فنجان قهوة، وقال وهو يراقبها بابتسامة تعب:

ماركوس: هيلين، هو إنتي ناوية تسيبي النوم نهائي ولا إيه؟ بقى لنا أسبوع وأنا كل يوم أصحى ألاقيكي بتكتبي وتقرّي زي المجنونة.

هيلين: ماركوس… أنا لقيتها.

ماركوس: لقيتي إيه يا مصيبة؟

هيلين: المدينة… كارمينـا! المكان اللي الناس فيه بتعيش للأبد… بس بتدفع الثمن بدمها!

سكت لحظة، ثم قال بسخرية ممزوجة بالخوف:

ماركوس: آه حلو… يعني رايحين نزور مصاصين دماء رسمي بقى؟

هيلين: بالضبط.

ضحك رغم التوتر الذي بدأ يملأ قلبه، ثم همس وهو يحدّق في عينيها:

ماركوس: أنا عارف نهايتي هتبقى بسببك، بس مش قادر أرفضك.

 المشهد السادس: الطريق إلى كارمينـا

سافرا ليلًا عبر الحدود الجبلية نحو شمال أوروبا، حيث الغابات الكثيفة التي تشبه لوحات الحلم.

الضباب يحيط بكل شيء، والرؤية بالكاد تتجاوز أمتارًا.

كانت السيارة تتهادى في طريقٍ موحل، والمطر يضرب الزجاج كأنه يُحذرهم من القدوم.

هيلين: حاسس؟ المكان دا فيه حاجة مش طبيعية… كل ما نقرب أحس قلبي بيتقل.

ماركوس: أنا مش حاسس بحاجة… يمكن دا البرد.

هيلين بصوتٍ خافت: أو يمكن لعنة المكان بدأت قبل ما نوصل.

عند مدخل المدينة، رأيا لافتة حديدية قديمة مكتوب عليها بلغة غريبة، وبجانبها جمجمة بشرية عُلّقت كتحذير.

رائحة الأرض كانت كريهة، والهواء مالح كأن البحر قريب.

لكن المدينة نفسها كانت ساكنة… لا صوت فيها، لا حركة، وكأن الزمن توقف عندها منذ قرون.

 المشهد السابع: المدينة التي لا تموت

دخلا أحد الأزقّة الحجرية. نوافذ البيوت مفتوحة، لكن لا أحد يطلّ منها.

الهواء بارد، وأصوات خفيفة تشبه التنفس تُسمع من بعيد.

فجأة، ظهر رجلٌ طويل القامة يرتدي معطفًا أسود، بشرته شاحبة وعيناه حمراوان كالدم.

ماركوس تراجع خطوة وهو يتمتم: دا شكله مش طبيعي يا هيلين…

الرجل اقترب بخطواتٍ بطيئة، ثم قال بصوتٍ مبحوح كأنما يخرج من قبر:

“أهلًا بالباحثين عن الخلود… لقد وصلتُم متأخرين.”

هيلين: إنت مين؟!

الرجل ابتسم ابتسامة باهتة وقال:

“أنا من بقي من لعنة كارمينـا… نحن لا نموت، لكننا أيضًا لا نعيش.”

اقتربت منه أكثر رغم تحذير ماركوس:

هيلين: يعني مصاصين دماء فعلاً؟!

“بل أسوأ… نحن من أُعيدت أرواحهم بعد موتهم. نحيا بالجسد، وننزف بالروح.”

في تلك اللحظة، دوّت صرخة من أحد الأزقة الخلفية.

اندفعت هيلين تركض نحوها، فوجدت امرأةً تتغذى على جسد رجلٍ حيٍّ، عيناها متوهجتان، وأنين الرجل يرتفع حتى خفت صوته.

ماركوس جذبها بسرعة وصرخ: ارجعي! المكان دا ملعون!

المشهد الثامن: لعنة الخلود

تأخر الليل، والسماء أصبحت دامية اللون.

بينما حاولا الهروب من المدينة، ظهرت عشرات الوجوه من بين الظلال، وجوهٌ بيضاء تتنفس موتًا، عيونها تتوهج كالجمر.

هيلين بصوتٍ مرتجف: ماركوس، لو متنا هنا، مش هنموت فعلاً… هنفضل زينا… زيهم.

ماركوس أمسك يدها بقوة وقال: ولا يهمني، بس مش هسيبك وحدِك.

اقتربت منهم الكائنات، وبدأت تهمس بصوتٍ واحدٍ كأنها تعزف أغنية الموت:

“من يدخل كارمينـا… لا يخرج حيًّا.”

أُغمي على هيلين بعدما شعرت بوخزٍ في رقبتها، وآخر ما رأته هو وجه ماركوس وهو يقاتل، قبل أن يسقط بجوارها.

 المشهد التاسع: بعد الفجر

حين بزغ الصباح، لم يبقَ من المدينة سوى أطلالٍ غارقة في الضباب.

لكن على أحد الجدران، كانت هناك كتابة جديدة بالدم:

“هيلين و ماركوس… الباحثان عن الخلود.”

وفي مكانٍ آخر، عند مدخل الغابة، شوهدت امرأة بشعرٍ ذهبيٍّ تسير بين الظلال، وعيناها تلمعان بلونٍ أحمر قاتم، تهمس بصوتٍ يشبه الريح:

ماركوس… استيقظ… الرحلة ما خلصتش… اللعنة بدأت.

يُتبع…!

للمزيد من القصص والمقالات المميزة ✨
تابعونا على
عوالم من الخيال



تابعونا على فيسبوك


Visited 1 times, 1 visit(s) today

3 تعليقات

    • تسلميلي قمر وفرحني تعليقك تابعي الجزء التاني منها إن شاءلله ف نفس الميعاد ♡♡♡♡♡

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *