سر صندوق الفرعوني (قصة قصيرة 1)

سر صندوق الفرعوني

للكاتبة صباح البغدادي

المشهد الأول: دفء الصباح وبدايات القدر

صباحٌ جديد أطلّ بنوره الخفيف، يتسلل عبر النوافذ كخيوط من حريرٍ تلامس جدران البيت الهادئ. رائحة الخبز الساخن تعبق في الأجواء، وصوت الأم ينساب من المطبخ كأنّه نغمة من طمأنينة قديمة:

صباح الفلّ يا عيون أمك، تعالى إفطري قبل ما تروحي، يومك طويل يا صافي

على درجات السلم، كانت صافي تهبط بخفةٍ تشبه خفة النسيم، حقيبتها تتأرجح على كتفها، وعيناها تلمعان ببريقٍ لا يشبه إلا بريق الأحلام التي لم تولد بعد.

قالت بابتسامةٍ مليئة بالحياة وهي تمسك كوب العصير:

أنا خلاص بقيت في سنة التخرج يعني التعامل معايا كأني وزيرة بقى!

من خلف الجريدة، خرجت ضحكة والدها، تلك الضحكة التي تحمل بين طياتها الحنان والفخر معًا. أنزل نظارته على أرنبة أنفه، ونظر إليها بطرافة:

وزيرة! ماشي يا وزيرة… بس الوزيرة دي لسه بتتهرب من المذاكرة وقت الامتحانات، ما ننساش بقى!

ضحكت صافي وهي تصبّ الشاي في كوب أبيض عليه رسمة زهرة لامعة، ثم ردّت بخفةٍ مصطنعة:

أنا؟ دي إشاعات مغرضة يا بابا، كل دي حملات تشويه لسمعتي الأكاديمية!

ضحك الجميع، حتى الأم التي خرجت من المطبخ تمسح يديها في المريلة، وقالت وهي تنظر إلى ابنتها بعينٍ يغمرها الحب:

يا بنتي ربنا يوفقك، بس كلي كويس الأول، النجاح عايز معدة مليانة!

أمسكت صافي قطعة فطير ساخنة وعضّت منها سريعًا، ثم تمتمت وهي تنظر من الشباك وكأنها تكلم نفسها:

يا رب يومي يعدي على خير… وأرجع وأنا حققت اللي في بالي…

أختها الصغيرة، التي كانت تلتهم قطعة فطيرها بشهية طفولية، رفعت رأسها بضحكة مشاكسة:

ده انتي شكلك ناوية على مغامرة النهارده يا صافي!

ضحكت صافي وهي تلتقط مفاتيحها وتلوّح بيدها مودّعة:

المغامرة مستنياني في كل زاوية في الجامعة… أنا طالبة آثار يا حبيبتي، حياتي كلها مغامرات!

غادرت البيت بخطواتٍ سريعة وقلبٍ يخفق بشوقٍ ليومٍ لا يشبه ما سبقه. كانت السماء صافية مثل اسمها، والهواء محمّل برائحة الوعد… كأن القدر يهمس في أذنها: انتبهي يا صافي، اليوم مش زي كل يوم.

المشهد الثاني: الجامعة… حيث تبدأ المغامرة

في ساحة الجامعة، كانت الحياة تتدفق كنبضٍ صاخب. أصوات الطلبة تختلط برنين الهواتف وضحكات الفتيات المتناثرة كالعصافير.

خطوات صافي كانت تعرف الطريق جيدًا، لكنها هذه المرة كانت تمشي وكأنها تبحث عن شيءٍ غامض، عن لحظة غير عادية تنتظرها في زاويةٍ ما.

حين دخلت المدرّج، ساد المكان شعور مختلف. حضورها لم يكن عاديًّا، كانت طاقتها تملأ الجوّ وكأنها تحمل في حقيبتها عاصفة من الحماس.

بعض العيون التفتت نحوها بلا وعي البعض بإعجاب، البعض بفضول، وآخرون بدهشةٍ خجولة من تصرفاتها التي لا تشبه أحدًا.

لكن صافي؟ كانت دائمًا تسير وكأنها تمشي في عالمٍ يخصّها وحدها، لا تُرضي أحدًا، فقط تصنع ضجّتها الخاصة كما اعتادت.

على الجانب الأيمن من القاعة، جلست كاميليا أو كما تصرّ دومًا أن تُدعى “كوكي” ترتب خصلات شعرها المنسدلة بعناية مبالغ فيها، وتتفقد طلاء أظافرها اللامع. رفعت حاجبها الأيسر وهي ترى صافي تدخل بخطواتٍ واثقة، ثم تميل إلى أروى وتُهمس ضاحكة:

يا بنات… أم العفاريت وصلت!

ضحكت أروى، تلك الهادئة التي يخالها الجميع عقل المجموعة، بينما المقربون فقط يعرفون أنها أكثر من صدّقت جنون صافي. قالت بسخرية رقيقة وهي تغلق اللابتوب:

هتيجي تقولنا “خطّوا معايا في حاجة صغيرة”… ونصحى نلاقينا في مخزن متحف مهجور!

أما تُقى، أكثرهنّ مرحًا وجرأة، فقفزت من مكانها ضاحكة وهي تسحب حقيبتها من على الطاولة:

دي تقول “حاجة صغيرة”، ونصحى نلاقي نفسنا في صحراء الجيزة بندوّر على مقبرة مش مكتشفة!

وبينما تتعالى الضحكات، كانت صافي تبحث بعينيها عن مقعد فارغ. وحين وقعت عيناها على صديقاتها، فتحت ذراعيها كأنها تستقبل الحياة نفسها وقالت بصوتٍ عالٍ مملوء بالحيوية:

أخييييرًا شفتكم! أنا حرفيًا كنت ماشية وسط ناس مالهمش أي تلاتة لازمة في حياتي!

ضحكت كوكي وهي ترفع خصلة شعرها الذهبية ببطء وتقول بتهكم مدلّل:

وإحنا بنوّرلك الطريق يا شيخة، تعالي اقعدي قبل ما تعملي عرض مسرحي في نص المدرج!

جلست صافي بجوارهن وهي تتنهد براحة:

أنا حاسة إن في حاجة غريبة النهارده… مش عارفة ليه، قلبي بيدق بسرعة.

تُقى نظرت لها بعينٍ ساخرة:

يبقى أكيد هتقابلينا بكارثة جديدة من كوارثك يا صافي!

ضحكت أروى وقالت وهي تفتح دفترها:

ولا يمكن بداية مغامرة جديدة… بس المرة دي يا رب ما نخرجش منها بمخالفة جامعية!

أمسكت صافي قلماً وبدأت ترسم خطوطاً غريبة على الورقة دون تركيز، وقالت بصوتٍ خافت كأنها تكلم نفسها:

يمكن فعلاً تبقى بداية حاجة… حاجة هتغيّر كل حاجة.

المشهد الثالث: الممرّ المجهول… وبداية اللعنة

انتهت المحاضرة، وتفرّق الطلبة في كل اتجاه. الهواء في أروقة الجامعة صار أثقل قليلًا، كأن شيئًا ما تغيّر دون أن يلحظه أحد.

كانت صافي تمشي وحدها في الممر الطويل المؤدي إلى قاعة الآثار القديمة، حقيبتها تتأرجح على كتفها وصوت خطواتها يتردد في المكان الخالي.

أخرجت هاتفها من جيبها وفتحت مكالمة جماعية مع صديقاتها:

يا بنات، أنا رايحة المخزن اللي تحت القاعة أشوف شوية القطع الأثرية اللي وصلوا امبارح. محدش عايز ييجي؟

ردّت تُقى بصوتٍ متردّد:

هوّ في عقل أصلاً يروح هناك لوحده؟ المكان ده ريحته تراب وكآبة!

كوكي ضحكت وقالت:

سيبيها يا تُقى، دي بتنبسط لما تشوف شبح ولا تمثال ناقص مناخيره. روح يا بطلة، بس لو لقيتي جثة فرعوني صاحي… ابعتيلي لايف!

ضحكت صافي وقالت بخفة:

هاهاها، حاضر يا شيخة. لو لقيت جثة هخليها تسلم عليكي مخصوص!

أنهت المكالمة وواصلت السير. الممرّ بدأ يظلم شيئًا فشيئًا، والمصابيح القديمة تصدر أزيزًا غريبًا كأنها تئنّ.

كلما اقتربت من باب المخزن، أحست بشيء يهمس داخلها… ليس خوفًا بالضبط، بل حدسٌ غامض يجرّها بخيطٍ غير مرئي نحو ذلك الباب الحديدي العتيق.

دفعت الباب فصدر صرير طويل، ثم تراجع الصدى بين الجدران الحجرية. دخلت ببطء، تلتقط أنفاسها وتتفحص المكان بعينٍ خبيرة:

أرفف خشبية عليها أدوات التنقيب، صناديق مغطاة بالقماش، تماثيل صغيرة نصف مكسورة، وخرائط قديمة صفراء الأطراف.

قالت بصوتٍ خافت لنفسها:

ياااه… المكان ده ريحته تاريخ… بس برضه فيه حاجة غريبة النهارده.

وبينما كانت تمرر يدها على أحد الصناديق المغبرة، توقّفت فجأة. كان هناك صندوق صغير مختلف عن البقية، مطليٌّ بلونٍ ذهبي باهت، تعلوه نقوش فرعونية دقيقة تُشبه العيون والطيور وأشكال غريبة لم ترها من قبل.

انحنت نحوه، ونفضت الغبار ببطء.

تمتمت بدهشة:

ده شكله مش من القطع اللي بنخزنها هنا… مين اللي جابه؟

رفعت الصندوق قليلًا فصدر منه صوت خافت، أشبه بنبضة قلب مكتومة. ارتجفت يدها للحظة، ثم وضعت الصندوق على الطاولة الحجرية.

فتحته بحذرٍ شديد… فانبثق منه وميض ذهبي خاطف، أشبه ببرقٍ خرج من بين العصور، ثم اختفى فجأة كأنه لم يكن.

تراجعت صافي بخطوة إلى الوراء، أنفاسها متقطعة، وقلبها يخفق بعنف.

تمتمت وهي تنظر حولها بخوفٍ ممزوجٍ بالدهشة:

يا ربّي… أنا هلوسة ولا إيه؟!

لكن قبل أن تلتقط أنفاسها، سمعت همسًا خفيفًا يأتي من داخل الصندوق، كصوتٍ بعيدٍ يتحدث بلغةٍ لا تشبه أي لغة عرفتها. كلمات متقطعة، غريبة، كأنها صدى من زمنٍ غابر:

“رع… حِـعـب… إين رع…”

صرخت صافي بخفوت:

فيه حد هنا؟!

لكن لا أحد أجاب. فقط الصندوق كان يهتز بخفةٍ غامضة.

اقتربت منه بحذرٍ من جديد، وضوء المصباح العتيق ينعكس على وجهها المرتبك. في تلك اللحظة، انفتحت عيناها على شيءٍ لم تتخيله قط:

رمز فرعوني محفور في الداخل بدأ يضيء باللون الأزرق الداكن، مثل عينٍ تنبض بالحياة!

تراجعت خطوة أخرى، لكن الأرض تحت قدميها اهتزت فجأة. الأوراق تناثرت، والتماثيل الصغيرة سقطت من الأرفف، والهواء امتلأ برائحة البخور القديمة.

أمسكت الصافي بحافة الطاولة وهي تصرخ:

يااااه ربّي! في إيه بيحصل؟!

ثم انطفأ كل شيء.

ظلامٌ تامّ… وسكونٌ مرعب.

وصوتٌ خافت قادم من أعماق الصندوق يقول:

“من أي زمنٍ أنتِ… يا من أيقظتِ اللعنة؟”

ارتجفت صافي، وصرخت بأعلى صوتها:

مين؟! مين بيتكلم؟!

لكن لم يكن هناك أحد… فقط الصندوق يُغلق من تلقاء نفسه، ورمز العين يختفي، تاركًا خلفه أثرًا من نورٍ غريبٍ على كفّها… كأنها خُتِمت بعلامة لا تُمحى.

يُتبع..
اقرا الفصل الثاني من هنا 

للمزيد من القصص والمقالات المميزة ✨
تابعونا على
عوالم من الخيال



تابعونا على فيسبوك

 

Visited 3 times, 1 visit(s) today

تعليق واحد

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *