بدون دليل
بقلم صباح البغدادي
المشهد الأول: جريمة بلا شاهد
استيقظ الحي على صوت صراخٍ اخترق سكون الصباح، إحدى الجارات كانت تصرخ وهي تشير نحو مدخل العمارة، حيث تجمّع الناس والضباط يطوقون المكان.
كانت الجثة ممددة على الأرض، جسد امرأة في أوج عمرها، ترتدي معطف الأطباء الأبيض الذي التصق بدمها.
همس أحد الضباط لزميله:
– دي زوجة الدكتور أيمن الدمنهوري، دكتور المخ والأعصاب، وهي نفسها دكتورة جراحة عامة.
اقترب صوت خشن من خلفهم:
– أنا الدكتور أيمن… زوجها.
رفع رأسه بصعوبة، عيناه حمراوان، صوته متقطع:
– آية المرشدي، مراتي، كنا متجوزين من خمس سنين. الجواز كان تقليدي، عمي هو اللي صمم… قال ما ينفعش تسيبها لشاب في سنها، وأنا وافقت.
كتب الضابط أقواله بتمعّن، بينما الملاحظات تتساقط من رأسه كالألغاز.
– افتح يا ابني المحضر وسجّل أقواله.
– حاضر يا فندم.
وبعد دقائق قصيرة قال الضابط بصوتٍ حازم:
– اتقفل المحضر في ساعته وتاريخه.
المشهد الثاني: زيارة غير مطمئنة
بعد ساعات، جلس أيمن في مكتبه، وجهه شاحب، ملامحه منهارة.
دخل صديقه القديم حسام، وهو يحاول أن يبدو ثابتًا، لكنه كان مضطربًا:
– إيه اللي حصل يا أيمن؟ والدكتورة اتقتلت إزاي؟
سند أيمن يديه على المكتب، تنفّس بصعوبة وقال بصوت مبحوح:
– معرفش… والله معرفش يا حسام، أنا جيت لقيت باب الشقة مفتوح، وآية غرقانة في دمها.
تراجع حسام خطوة إلى الوراء وهو ينظر إليه بريبة خفية.
السكوت بينهما صار أثقل من الجدران، والعيون تحمل ألف سؤال بلا إجابة.
المشهد الثالث: خيوط الشك
في نفس التوقيت، كان المقدم علاء شوقي يجلس أمام أوراق القضية، يقرأ إفادات الجيران والأقارب والأصدقاء.
كل شهادة كانت تزيد الأمر غموضًا، لا وضوح، لا منطق، فقط تضارب في كل كلمة.
أمسك بورقة معينة وبدأ يرسم دائرة حول اسمٍ بعينه…
صديقة المجني عليها سلمى طارق.
كانت أقوالها متناقضة، وملامحها في التحقيق توحي بشيءٍ لم يفهمه بعد.
دخل عليه زميله عماد بخطواتٍ سريعة وهو يحمل كوب قهوة:
– مالك يا علاء؟ لسه غرقان في القضية دي؟
ابتسم علاء ابتسامة باهتة وقال:
– كل ما أقفل خيط، بيتفتح عشرة… كل الناس بريئة، ومع ذلك في قاتل بينهم.
جلس عماد أمامه، وقال بنبرة غامضة وهو يضع الكوب على المكتب:
– هيطلع في الآخر قاتل مقتلش حد.
رفع علاء رأسه ببطء، نظر إليه بتركيز شديد، الكلمات علقت في ذهنه كالسهم.
ما الذي يعنيه عماد؟ قاتل… لكنه لم يقتل؟
غاص علاء في تفكيره، وفي داخله إحساس غريب بأن الجريمة دي مش مجرد جريمة قتل…
بل بداية لشيءٍ أعمق، وأخطر، وأشد غموضًا.
المشهد الرابع: لعبة الموت والبعث
الليلة كانت هادئة على غير العادة، المطر يهطل بخفة، والمدينة تغفو تحت غطاءٍ من البرود والظلال. لكن داخل شقةٍ في الطابق الخامس، كانت هناك نارٌ تشتعل بهدوء، نار امرأةٍ لم تعد قادرة على الاحتمال.
كانت آية المرشدي تجلس أمام المرآة، وجهها شاحب، عيناها غائرتان، وصوتها بالكاد يُسمع وهي تهمس لنفسها:
– خنتني يا أيمن… بعد اللي بينّا؟!
لم يكن الصوت سوى صدى قلبٍ مكسور اكتشف الحقيقة مصادفة. منذ أيامٍ فقط، وبينما كانت تبحث عن ملف طبي في مكتب زوجها، سقط هاتفه من جيبه، وانكشف ما كان يجب أن يبقى سرًّا. صور، رسائل، وموعد لقاء يجمعه بصديقتها الأقرب سلمى.
ارتجفت يداها وهي تقرأ آخر رسالة.
هتفضل هي مجرّد اسم ف حياتي وإنت كل الحياة.”
الصدمة تحولت إلى غضب، والغضب إلى فكرة، والفكرة إلى خطةٍ مُحكمة.
لم تكن آية امرأة ضعيفة تبكي وتنهار، بل كانت طبيبة تعرف معنى الجرح والشفاء، والموت والحياة. قررت أن تُميت نفسها بيديها لتولد من جديد وقفت أمام النافذة تنظر إلى الشارع، والريح تعصف بستائرها البيضاء، وقالت لنفسها بابتسامةٍ باردة:
– هتندم يا أيمن… وإنتِ كمان يا سلمى.
المشهد الخامس: المسرحية
بعد يومين فقط، دقت الساعة التاسعة مساءً. الشقة مظلمة إلا من ضوءٍ خافتٍ ينسل من المصباح فوق المطبخ فتحت آية الباب لرجلٍ غامض الملامح، يحمل حقيبة صغيرة.
قالت بهدوء:
– كل حاجة جاهزة، عايزة تمثّلها كأنها حقيقة.
– اطمني يا دكتورة، أنا شُغلي نضيف، محدّش هيشك في حاجة.
مدّت له ظرفًا مليئًا بالنقود، وقالت بثقةٍ واثقة من قرارها:
– أنا هكون نايمة فعلاً، حقنة مهدئة وكمية بسيطة من الدم الصناعي، الباقي عليك.
مرت دقائق قليلة، ثم بدأ “السامر” بتنفيذ الخطة. أصوات تكسير، اصطدام، صرخة مكتومة، ثم صمت تمدّدت آية على الأرض، الدم يسيل على عنقها كما خططت تمامًا، وعيونها نصف مغلقة.
بعد نصف ساعة، دلف أيمن إلى الشقة بخطواتٍ مسرعة، ينادي بصوتٍ مرتجف:
– آيةاااا… آية انتي فين؟!
توقف فجأة عند الباب المفتوح، تجمّد في مكانه، صرخ صرخة مدوّية:
– لأ… لأ يا آية… حد يلحقني!
دخل الجيران مذعورين، والشرطة وصلت بعد دقائق.
في تلك اللحظة، كانت آية ما تزال على الأرض، أنفاسها بطيئة… لكنها تسمع، ترى، وتشعر بانتصارٍ غامض يتسلل في عروقها.
المشهد السادس: انبعاث الظلال
مرّت ثلاثة أيام. الصحف كتبت عن “مقتل الطبيبة آية المرشدي على يد مجهول”، والتحقيقات بدأت تُحاصر أيمن وأسئلته المتناقضة.
الضابط علاء شوقي كان أول من انتبه للتفاصيل المريبة.
قال لزميله عماد وهو يتصفح الملف:
– القضية فيها حاجة مش مظبوطة… كل الأدلة ضد الدكتور، بس مفيش دليل فعلي إنه قتلها.
ضحك عماد بسخرية وقال:
– يبقى هو قاتل… بس مقتلش حد.
كلمات عماد علقت في ذهن علاء، لكن لم يتخيل أحد أن الجثة التي دفنوها كانت جثة “خدعة”.
في مكانٍ آخر، داخل شقة صغيرة على أطراف المدينة، كانت آية تُنزع الضمادة من رقبتها وتنظر في المرآة بابتسامةٍ مُنتصرة.
– نجحت الخطة… دلوقتي يبدأ دوري الحقيقي.
بدأت تتواصل من رقمٍ مجهول، ترسل رسائل غامضة لأيمن وسلمى.
اللي بينكم مش هيفضل سرّ، الدم اللي ضيّعتوه هيتلعن بيكم.
أيمن بدأ ينهار، صوته يرتجف وهو يكلم سلمى:
– هي مش ممكن تكون حية، شُفتها بعيني!
– طب اهدى يا أيمن… دي لعبة من حد عايز يورّطنا!
– بس ليه كل الرسائل دي جاية من رقمها؟!
بدأ الشك يأكلهم كما كانت آية تخطط. كانت تراقبهم من بعيد وتستمتع بتفككهما.
المشهد السابع: السقوط
في إحدى الليالي، رتبت آية لقاءً سريًا بين سلمى وأيمن عبر رسائلٍ زائفة، جعلتهما يلتقيان في العيادة القديمة.
حين دخلا المكان، فوجئا بعلاء وفريقه في انتظارهم.
صرخ علاء:
– ولا حركة! كل حاجة متسجلة، كل اعتراف، كل مكالمة.
كانت آية تراقب المشهد من بعيد من خلال الكاميرا. أيمن يحاول التبرير، سلمى تبكي، والضابط يضع القيود في أيديهم.
حين أُغلِق الباب خلفهم، همست آية بصوتٍ خافت:
– اللي خان… لازم يدفع التمن.
المشهد الثامن: ميلاد جديد
بعد أشهرٍ من المحاكمة، صدر الحكم: سجن أيمن وسلْمى بتهمة التلاعب بالأدلة والتورط في جريمة غير مباشرة أدت إلى “وفاة” المجني عليها.
لكن لم يعرف أحد أن المجني عليها حية تُرزق، تتابع من بعيد، وتضحك في صمت.
في صباحٍ جديد، جلست آية في مقهى مطلٍّ على البحر، بشعرٍ قصير وثيابٍ مختلفة، اسم جديد في أوراقها: ليلى رشيد.
وضعت فنجان القهوة أمامها وهمست لنفسها:
– الانتقام خلاني أعيش، بس المرة دي… هعيش لنفسي.
فتحت دفترها الصغير، وبدأت تكتب أول سطر في قصةٍ جديدة:
“أحيانًا لازم تموت… علشان تعرف تعيش.”
اقرأ قصة افتتاح المتحف المصري من هنا.





[…] اقرأ قصة بدون دليل من هنا. […]
ايه الجمال ده متألقه ومبدعة زي عادتك استمري يا فنانة
جميل جدا
يخليلي ياك
تسلم