المشهد الأول تزوجت قاصرة
سقوط طفلة في فجوة القدر
في إحدى القرى الريفية الهادئة، كانت مريم تركض بين الأزقة الترابية، تلعب مع أطفال الجيران بضحكتها الطفولية التي لا تعرف سوى البراءة. لم تتجاوز التاسعة من عمرها، تلميذة في الصف الخامس الابتدائي، تحمل في قلبها حلمًا صغيرًا لكنه نقيّ: أن تصبح طبيبة جراحة تنقذ الأرواح.
لكن القدر كان يحفر طريقًا آخر، طريقًا لم تختَرْه.
جاء رجلٌ في منتصف الأربعينيات، بملامح خشنة ورائحة مالٍ باهتة، يريد الزواج من مريم. لم يتردّد الأب، جابر، لحظةً واحدة؛ باع حلم ابنته، باع طفولتها، باع روحها… مقابل مهرٍ زهيد ظنّ أنّه سيُصلِح ما أفسدته الحياة.
وقفت مريم أمامه، عيناها الواسعتان ترتجفان، ودمعة ثقيلة تحاول التشبّث بأهدابها الضعيفة.
بصوت طفولي مهزوز، قالت:
يا بابا يعني إيه أروح بيت راجل تاني؟!
نظر إليها جابر بجمودٍ لا يليق بوجه أب، وكأن قلبه تحجّر بفعل الحاجة أو الطمع، لا فرق.
هتتجوزيه وتعيشي معاه هو دافع مهرك، وأنا محتاج الفلوس علشان أقدر أصرّف على نفسي وعلى إخواتك الصغيرين أمّك سابتنا ومشيِت، وانتي لازم تشيلي معايا.
سقطت الكلمات على قلبها كضربةٍ لا ترحم. شعرت بأن العالم اتسع فجأة، ثم ضاق حتى اختنق حولها. هل الطفلة تُباع؟ هل الأحلام تُذبح بهذه السهولة؟
في تلك اللحظة أدركت أن وجود الأب ليس دائمًا نعمة فبعض الآباء يمكن أن يكونوا نقمة تُطفئ نور القلب قبل أن يشعّ.
المشهد الثاني تزوجت قاصرة
العريس الذي لا يشبه الآخرين
لم تكن مريم تدرك ما ينتظرها وهي تقف خلف باب الغرفة الصغيرة في بيت والدها. كانت ترتجف، لا من البرد، بل من خوفٍ لا تعرف له اسمًا. كانت تسمع الهمسات في الخارج:
“العريس وصل عزّ الدين جه.”
دخل الرجل الأربعيني بملابس بسيطة ولكن أنيقة، وهدوء غريب يناقض ضخامة حضوره. جلس أمام مريم، وانحنت عيناه نحوها برفقٍ لم تعهده من والدها ولا من أحد. رأى ضفيرتها الصغيرة، وملامحها التي لم تزل تحمل بقايا الطفولة… ورأى أكثر ما هزّه: براءة بعمر الورد تُدفَن قبل أوانها.
ابتلعت مريم ريقها بصعوبة وهي ترفع عينيها نحوه.
مريم بصوت خافت:
حضرتك اسمك إيه؟
ابتسم ابتسامة لم تفهمها، لكنها لم تخفها.
عز الدين:اسمي عز الدين وإنتي مريم، صح؟
أومأت بخجل وهي تشدّ طرف فستانها المدرسي القديم ما زالت ترتديه، وكأنها تتمسّك بطفولتها الأخيرة.
لم يُطِل الحديث. كان يدرك أن الكلام معها يجب أن يكون بحذر، كمن يلمس جناح عصفور مكسور.
لحظة كتب الكتاب
جاء المأذون، جلس الأب بجواره، وتمّ عقد القران بسرعة الأربعينيات ورياء الفقر.
مريم لم تفهم كثيرًا مما يُقال؛ لم تفهم إلا أنها أصبحت “زوجة”.
كلمة حملت ثقل الجبال على كتفي طفلة.
بعد انتهاء المراسم، أمسك عز الدين بيدها بخفّة:
يلا يا مريم نروح
لم تكن تملك خيارًا آخر.
المشهد الثالث تزوجت قاصرة
القصـر والدهشة
وصلت معه إلى مكان لم تتوقعه. قصر كبير عند أطراف القرية، بوابة حديدية ونخيل يتمايل في الرياح.
حدّقت في المكان كمن يرى الدنيا لأول مرة.
كانت تتمنى أمّها بجوارها، تلك الأم التي رحلت وتركتها مع أبٍ قاسٍ وعالمٍ أكبر من عمرها بكثير.
دخلت القصر، وخطواتها الصغيرة تصنع صدى أكبر منها.
فجأة، وجدت عز الدين ينحني قليلًا، ويجلس على كرسي خشبي عريض، ثم يمدّ يديه إليها:
تعالي يا مريم اقعدي هنا
أشار إلى ركبتيه.
ترددت، ثم تقدّمت بخطوات خائفة. وما إن جلست، حتى أحاطها بذراعين قويتين لكن مليئتين بحنانٍ غريب حنان لم تعرفه من قبل.
مريم هامسة: هو حضرتك زعلان مني؟
هزّ رأسه وهو يمسح على شعرها:
عز الدين:
زعلان؟أنا بس مستغرب. إزاي طفلة زيّك اتجبرت على حاجة زي دي؟
ارتجفت شفتاها، فعاد يكلمها بصوت دافئ، أبويّ أقرب من كل شيء:
عز الدين:
متخافيش أنا مش هأذيكي. انتي في أمان. وأنا هعوّضك عن الحنان اللي مفتقداه.
كانت تلك الجملة كفلق الصبح على روحٍ أرهقها الليل.
فجأة بكت؛ بكت كما لم تبكِ من قبل، دموع ساخنة تسقط على قميصه، وهو يضمّها دون أن يضغط، كمن يتعامل مع قلبٍ هشّ.
وهناك، على ركبتي رجل لا تعرفه، شعرت مريم للمرة الأولى…
أن الغربة قد تكون أرحم من البيت أحيانًا.
المشهد الرابع تزوجت قاصرة
الحقيقة التي غيّرت كل شيء
جلس عزّ الدين يتأمل مريم وهي نائمة فوق الأريكة الصغيرة في إحدى غرف القصر، بعد أن هدأت دموعها أخيرًا.
كانت متعبة كأن العالم أثقل طفولتها بحمل لا يُحتمل.
لكن شيئًا آخر كان يلفت نظره، شيء صادم جسمها الممشوق الذي لا يتناسب مع عمرها إطلاقًا.
هي طفلة، يرى ذلك في عينيها وفي ارتجاف يدها حين تمسك بشيء، وفي خوفها من الظلام… لكن ملامح جسدها كانت تقول شيئًا آخر، نتيجة سوء تغذية أو جينات، لا يهم… لكنها بالتأكيد ليست امرأة كما أراد والدها أن يوهمه.
جلس قربها وهمس لنفسه:
“معقول؟ دي طفلة دي مش سن جواز أبداً.”
راودته فكرة التراجع عن الزواج فورًا، لكنه تذكّر ما سمعه في القرية قبل كتب الكتاب بساعات قليلة.
جلس مجموعة من الرجال أمام الدكّان القديم، وكان يتظاهر بأنه جاء لشراء شيء، لكنهم كانوا يتحدثون بصوتٍ عالٍ:
“جابر بيجوز مريم بسرعة أصل في واحد غني من برا البلد عايزها!”
“ده ناوي يبيعها بأي تمن المهم الفلوس.”
تجمّد عزّ الدين مكانه في ذلك الوقت.
أدرك أن ما يجري لم يكن زواجًا بل تجارة.
بيع لروح طفلة قبل جسدها.
وإن تراجع الآن، سيعيدها إلى أبيها، فيدفع بها فورًا إلى ذلك الثري المجهول، وقد يكون أكثر قسوة، أكثر جشعًا، أكثر ظلامًا.
ولمعت الفكرة ثم أصبحت قسمًا.
وقف عزّ الدين في الغرفة، ينظر إليها وهي نائمة وكأن قلبه على وشك الانفجار من المسؤولية المفاجئة.
عزّ الدين بصوت خافت، كأنه يقسم:
أنا مش هسيبك ولا هسمح لحد يلمس شعرة منك.
اتجوزتك قدّام الناس بس عمري ما هعاملِك كزوجة.
أنا هبقى أمانك لحد ما تكبري وتقرري انتي عايزة تبقي إيه.
اقترب منها، ووضع بطانية خفيفة على كتفيها الصغيرة.
كانت الصورة أمامه أعمق من أي كلام. طفلة تُباع، وراجل وجد نفسه فجأة وصيًّا على حياة لم تختَرْه.
عز الدين وهو يبتسم بحزن:
اللي عمله أبوكِ أنا هصلّحه ووالله ما هسيبك تضيع.
وفي تلك اللحظة لم يكن مجرد رجل أربعيني…
كان الوحيد الذي قرر أن ينقذ مريم من قدرٍ أسود كان ينتظرها خلف باب البيت.
المشهد الخامس تزوجت قاصرة
بيتٌ يتّسع للقلب
مرّت الأيام في القصر الواسع كأنها تعيد تشكيل حياة مريم من جديد.
لم تعد تلك الطفلة الخائفة التي دخلت باكية، بل أصبحت تستيقظ كل صباح على صوت عزّ الدين وهو يترك لها الدفاتر والألوان ويقول لها بابتسامة:
عز الدين:
يلا يا مريم درسك مستنيكي. هتبقي أحسن دكتورة في الدنيا.
ومع الوقت تحوّل اسمه في فمها من عز الدين إلى اسم أقرب لقلبها:
زيزو.
كانت تناديه به وتضحك، فيضحك معها رغم وقاره المعروف في القرية.
بدأت تعمل المقالب الصغيرة التي تصنعها طفلة تستعيد طفولتها المسروقة:
مرة تضع سكر بدل الملح في شايه، ومرة تخبّئ قلمه وتقول إنها لم تره، ومرة تضع ورقة على ظهره مكتوبًا عليها “زيزو الطيب
وكان يضحك ليس على المقلب، بل على الحياة التي عادت تنبض في عينيها.
بقلم صباح البغدادي
اقرا قصة مغامراتي داخل مستشفي المجانين من هنا



