تزوجت قاصرة
للكاتبة صباح البغدادي
ذات ليلة، جلست بجواره وهي تذاكر، ثم رفعت رأسها وقالت بتردد:
زيزو ممكن لما سالي و سندس يكبروا شوية ييجوا هنا؟ يتعلموا؟
رفع حاجبه باستغراب وحنان:
يكبروا إيه؟ دول ييجوا بكرة لو عايزين.
اتّسعت عيناها بسعادة، وكانت تلك أول مرة يشعر فيها أنه لم ينقذ طفلة فقط بل أنقذ عالمًا كاملًا كان ينهار.
المشهد الأول تزوجت قاصرة خبر لا يشبه الصباحات
في صباح بارد، كان عز الدين في طريقه لإعداد الإفطار حين سمع من الراديو صوتًا متوترًا يتحدث عن حادث على الطريق الزراعي توقف، وشعر بقشعريرة تسري في جسده عندما سمع الاسم:
“جابر والد الطفلة مريم توفّي في الحال بعد تصادم مروع تجمّد المكان حتى الهواء خفّ ثقله أغلق عز الدين الراديو، وجلس لحظة يحاول جمع نفسه ثم صعد إلى مريم.
وجدها تذاكر، وعندما رأته متوترًا، قالت بقلق:
في إيه يا زيزو؟
جلس أمامها، أمسك يديها الصغيرة، وتنفّس بصعوبة:
مريم أبوكي حصل له حادث ومات.
صمتت لم تصرخ لم تبكِ بقوة فقط انكمش قلبها لثانية، وارتجف رمشها، ثم همست:
هو مات؟
أومأ فأطرقت رأسها ودمعتان سالتا بخجل.
كانت حزينة، لكنها ليست منهارة فالأب الذي تخلى عنها لم يترك جرحًا بقدر ما ترك فراغًا ولم يكن الفراغ مؤلمًا كالحب الضائع اقترب منها عز الدين وضمّها، تلك الضمة التي أطفأت آخر خوف في قلبها
المشهد الثاني تزوجت قاصرة عودة التوأم
بعد ساعات قليلة، ذهب عز الدين إلى بيت جابر ليأخذ التوأم سالي و سندس، بنتين بعمر السابعة، شاحبتين من الخوف، ممسكتين بملابس بعضهما.
سالي بخوف
إحنا هانروح فين؟
عز الدين مبتسمًا:
هتروحوا عند مريم وعندي ومش هسيبكم أبدً ركضتا إليه، كأنهما وجدتا صدرًا يعرف معنى الأمان للمرة الأولى وعندما دخلوا القصر رأتهم مريم من أعلى السلم، فهرعت إليهم واحتضنتهم كأنها تحضن آخر ما تبقّى من أمها تعالوا ده بيتكم كان المشهد يشبه ولادة بيت جديد بيت لا يشبه البيوت الريفية القاسية، بل بيتًا صنعه الحنان، لا الورق ولا المأذون وفي تلك اللحظة أدركت مريم أن الله لم يأخذ منها أبًا، بل أبدلها بـــ أمانٍ ورجُل قلبه أكبر من القصر الذي يسكنه.
المشهد الثالث تزوجت قاصرة حين يكبر القلب قبل العمر
مرت السنوات بثقلها ونعومتها معًا، وترعرعت مريم داخل القصر كمن وُلدت من جديد كبرت تحت نظر عزّ الدين، لا كزوجة مفروضة، بل كابنة ثم شابة ثم امرأة يزداد احترامه لها كل يوم تحقق حلمها الأول، فصارت طالبة في كلية الطب، تسير بثقة بين المحاضرات، تحمل معها صورًا من طفولتها المكسورة لكن بإصرار بنتها من البداية.
أما التوأم سالي و سندس، فقد كبُرتا وصارتا في الصف الثالث الثانوي، تلمع أحلامهما في عينَي زيزو كما لو كانتا بناته من دمه وروحه
المشهد الرابع تزوجت قاصرة زيارة غير متوقعة
في أحد الأيام، جاء رجل إلى القصر، قريب من عزّ الدين، رجل خمسيني له هيبة وهدوء، وبرفقته شاب في بداية العشرينات، تجاوز طوله طول الباب تقريبًا.
كان اسمه حاتم هادئ الملامح، نظيف القلب، وذكي النظرات دخلوا وجلسوا في غرفة الضيافة، وبينما كانت مريم تُحضّر الشاي، مرت سندس وهي أخت التوأم الكبرى من أمامهم لتسلم سريعًا لم تكن تقصد لفت انتباه أحد لكنها فعلت دون أن تدري.تجمّد حاتم لثانية.
نظر إلى أبيه بخجل، ثم إلى عز الدين، وانخفض صوته وكأنه يخشى أن يسمعه الهواء
اللي عدّت دي سندس؟
ابتسم الأب، وتبادل نظرة سريعة مع عزّ الدين.
والد حاتم:
واضح إن ابني عايز يتكلم في موضوع.
ضحك عزّ الدين بخفّة:
قول يا حاتم إيه المطلوب؟
احمرّ وجه الشاب وقال بصوت ثابت رغم حيائه
أنا معجب بسندس وعايز أتقدم لها لو حضرتك توافق.
ساد الصمت لثوانٍ، ثم تنفّس عزّ الدين بعمق.
كان يرى في حاتم شابًا مؤدّبًا وقويًا، وفي عينيه احترامًا نادرًا لكن داخله كان يخاف على بناته كما يخاف على قلبه
حاتم انت شاب محترم ومن بيت كويس. بس سندِس لسه صغيرة ولسه قدامها دراسة.
انحنى والد حاتم للأمام وقال بثقة:
وإحنا مش مستعجلين. نخطبهم وتكمل تعليمها. ما قلناش تتجوز دلوقتي.
سكت عز الدين، ثم نظر نحو الشاب نظرة اختبار واكتشف فيها صدقًا لم يستطع تجاهله فابتسم أخيرًا:
تمام نتفق على الخطوبة. بس بشروط
حاتم:
أي حاجة تقولها يا عم عزّ الدين، هعملها.
عز الدين:
سندس تكمل تعليمها، مش هتعطلها لحظة. وتدعمها وتخليها تبقى أحسن نسخة من نفسها.
هزّ حاتم رأسه بسرعة، كأنه يخشى أن يضيع منه الأمل لو تأخر:
أوعدك ومش هخذلك. ولا هخليها تندم لحظة.
ابتسم عز الدين، وربت على كتف الشاب:
يبقى ألف مبروك ونكتب الكتاب لما تخلص سنتها الدراسية.
وبإذن الله ربنا يكمل بخير.
في ذلك المساء، جلست مريم تراقب المشهد بصمت وابتسامة دافئة.
رأت فرحة سندس، وخجلها، ودموعها الصغيرة التي تحاول إخفاءها.
واستعادت كل ما مرّت به وكل ما تغيّر في حياتهم منذ دخلوا هذا القصر.
فهمست لنفسها:
لو ماكنش عز الدين وقف جنبنا كنا ضاعنا كلنا.
وفي قلب عزّ الدين ارتسم فخر لا يشبه أي فخر فقد أصبح بيته بيتًا، وحياته حياةً لثلاث فتيات، ومريم صارت جزءًا من قدره الذي لم يخطط له، لكنه يحمد الله عليه كل يوم.
المشهد الخامس تزوجت قاصرة حديث يفتح أبوابًا مغلقة
كان الليل قد غطّى القصر بسكونه، وجلست مريم في الشرفة الصغيرة تراجع محاضراتها.لكن ذهنها لم يكن مُنصبًّا على الكتب…
كان مشغولًا بسندس، وبحاتم، وبنظرة عز الدين عندما وافق على الخطوبة.
سمعت خطواته الهادئة تقترب، ثم جلس بجوارها.
لم يعُد ذلك الرجل الغريب الذي دخلت بيته طفلة صار أقرب الرجال لقلبها، رغم أنها لم تقل ذلك بصوتٍ مسموع.
تنحنح عزّ الدين، وكأنه يفكر ألف مرة قبل الكلام.
عزّ الدين:
متخافيش يا مريم أنا عملت ده لمصلحة سندس
رفعت رأسها نحوه، وعيناها تحملان خليطًا من الفضول والخوف.
أنا أنا مش خايفة يا زيزو بس خايفة عليها هي
ابتسم وحرّك رأسه بثقة هادئة:
أنا عارف إنك خايفة وأختك تستاهل نخاف عليها هنا في البلد البنات بتتقيد آه أنا زي والدكم بس (زي) دي مش بتعترف بالدين
سكت لحظة، ثم أكمل كأنه يكشف سرًا لم يقله من قبل:
سندس وسالي دايمًا مغطّين شعرهم وعايشين تحت قيود صغيرة وكبيرة لكن حاتم الولد ده بيحبها، وهي تقريبًا بتحبه وأنا ليّا نظرتي و ربنا يرزق سالي كمان، وأكون قمت بواجبي تجاهكم
تأثرت مريم بالكلام، وانخفضت عيناها نحو يديها المرتجفتين لم تكن القصة عن سندس فقط بل كانت عن كل ما يختبئ داخل قلبها هي.
أحسّ عز الدين بتوترها، فاقترب قليلًا:
مالك؟ مش مرتاحة؟
ارتبكت كأن الكلمات تتصارع داخل صدرها.
مريم بخجل:
لا… هو… أنا بس…
حاولت الابتسام لكنها فشلت كانت تريد أن تفتح معه بابًا ظلّ مغلقًا لسنوات باب قلبها.
أخيرًا أخذت نفسًا عميقًا، وقررت مواجهة خوفها
زيزو في حد كنت أعرفه في الكلية مش بس أعرفه… أنا… كنت بحبه.
توقفت لم تستطع النظر إليه.
ظلّ عز الدين صامتًا، لا يطلب منها أن تكمل ولا يمنعها شجّعها ذلك على إخراج ما في قلبها
اسمه إياد مكنتش ناوية أحب، ولا أفكّر بس هو كان مختلف عرفته من أول سنة حكيتله عن طفولتي… عن أمي… عن أبويا… وحتى عن زواجنا اللي ماكنش زواج بجد واحترم صراحتي.
لمعت دمعتها وهي تضغط على أصابعها:
مكنش بيقولي كلمة تضايقني مكانش بيستغل ضعفي ولا يعاملني كحاجة غريبة زي ما الناس بتعمل.
كان يسمع بكل ثبات كان مرت لحظة ثقيلة
ثم رفعت عينيها إليه بخوف:
أنا مش عارفة ده صح ولا غلط بس مقدرتش أخبّي عنك.
تنفّس عزّ الدين بعمق، وبدا أثر العمر في صمته الطويل.
ثم رفع يده ووضعها فوق يدها بهدوء يشبه دفء الأب، وحكمة رجل يرى أكثر مما نقول:
يا مريم أنا لو كنت مكانك، كنت هعمل زيّك وأنا عمري ما كنت عايزك تتقيّدي بيا كنت عايزك تعيشي، وتكبري، وتختاري وإياد لو هو راجل بجد زي ما بتقولي يبقى يستحق إنه يبقى جزء من حياتك.
شهقت مريم من التأثر لم تتوقع هذا القبول ولا هذا الفهم.
ابتسم عز الدين وربت على كتفها:
ما تخافيش يا بنتي قلبك مش غلط واللي ربنا كتب لكِ هيجيلِك لحد عندك في تلك اللحظة شعرت مريم أنها لم تصارح رجلًا بل صادقت أمانًا كانت تظنه مستحيلً
المشهد السادس بداية نهايات وبدايات أخرى
كانت أيام القصر مليئة بالاستعدادات، فالبيت بأكمله يعيش على وقع قرب كتب كتاب سندس وحاتم ضحكات، تجهيزات، زينة، وبنات يركضن بين الغرف لكن داخل قلب مريم كانت عاصفة صامتة لم تكن تتوقع أن حياة سندس تتحرك بسرعة بينما حياتها هي تنتظر مواجهة مصيرية مع عزّ الدين، ومع إياد.
لقاء إياد لحظة غيرت كل شيئ وقف عزّ الدين أمام باب القصر بوقاره المعتاد، ينتظر الزائر الذي حدّثته عنه مريم كثيرًا وعندما دخل إياد، شاب في منتصف العشرينات، طويل، بملامح هادئة وعيون واثقة، أحس عزّ الدين بشيء لم يشعر به من قبل احترام ممزوج بدهشة.
اقترب إياد بخطوات ثابتة، ثم وقف أمامه وقبّل يده احترامًا
حضرتك مقامك كبير ووجود مريم في حياتي شرف مش هاخسره.
نظر إليه عزّ الدين بتركيز رجل يختبر روح شاب ذكاء، احترام، اتزان كلمات مريم لم تكذب جلسا سويًا، تحدث إياد بثقة هادئة عن دراسته، عن اهتمامه بمريم، وعن إعجابه بقوتها ونضجها وعندما أنهى كلامه، قال عزّ الدين بصوت منخفض:
أنا أعجبت بيك يا إياد ومش بسهولة حد يدخل قلبي.
ابتسم إياد بخجل وكانت تلك أول إشارة بأن قدرهما بدأ يمشي طريقه.
المشهد السابع تزوجت قاصرة الطلاق وكلمة لا تُقال بصوت مرتفع
بعد يومين فقط، جلس عزّ الدين مع المأذون كان القرار صعبًا لكن الصحيح واضحًا مريم لم تكن زوجة على الحقيقة، بل مسؤولية حماها وربّاها وقع عزّ الدين على ورقة الطلاق بهدوء، كأنه يضع نقطة النهاية لسطر تطوي ليبدأ سطرًا جديدًا لها عندما أخبرها، لم تعرف إن كانت تبكي أم ترتجف فهو رجل لم تطلقه، بل تطلق قلبه عنها جلس بجوارها في غرفتها، بملامح أب أكثر منها زوجًا:
يا مريم. انتي كبرتي وبقيتي عاقلة، وفاهمة، وبتدرسي وتنجحي ولازم تعرفي إن بعد الطلاق انتي محرّم عليّا.
رفعت عينيها بصدمة صامتة، فقال بلطف
يعني لازم تلتزمي بالحجاب جوّا البيت.
لحد ما تكمّلي العدّة وبعدها، تروّحي على بيت جوزِك.
هزت رأسها بخجل، فتابع:
عايز أشوفك خارجة من البيت ده عروسة ودي آخر أمانة عليّا. وبعد كده يكون إياد مسؤول عنك وراجل في حياتك.
سقطت دمعة من عينها رغماً عنها
لم تكن دمعة حزن بل امتنان لرجُل أعاد تشكيل قدرها
المشهد الثامن تزوجت قاصرة يوم كتب الكتاب وبداية فصل جديد
اجتمع أهل القرية، وزُيّن القصر بالأنوار.
جلست سندس بجوار مريم، تتوتر وتبتسم وتتنفس بصعوبة كأن قلبها يسبق خطوات الزمن.
دخل حاتم بثيابه الجديدة، فابتسمت سندس خجلًا، وبدأ كتب الكتاب وسط تكبيرات وفرح لا يشبه أيّ فرح سابق.
وبينما الجميع يحتفل كان إياد يقف في زاوية القاعة، يراقب مريم من بعيد وهناك، لمحته وهي تتبادل معه ابتسامة خفيفة ابتسامة عروس قادمة بعد انتهاء الحفل، اقترب إياد من عز الدين، فابتسم الأخير وهو يربت على كتفه:
خلصنا من سندس وباقي سالي
ضحك بخفّة، ثم أكمل بجدية:
ابن خالِك معجب بيها، وأنا شايفه ولد كويس
بس لسه بدري واللي مكتوب هيتحقق.
هزّ إياد رأسه بابتسامة واثقة:
سالي بنت طيبة وربنا يكتب لها اللي يستاهلها.
ابتسم عز الدين وهو ينظر إلى البنات اللاتي ملأن حياته نورًا
لسه يا إياد لسه قصتنا مكتملتش وكل بنت ليها مصيرهيتفتح قدامها في وقته.
وفي تلك اللحظة كانت مريم تنظر إلى إياد بخجل، وهي تدرك أن العدّة أيام، والزفاف انتظار وأن بابًا جديدًا فُتح لها بابًا للحياة التي حُرمَت منها طويلًا…!
اقرأ قصة تزوجت قاصرة الجزء الأول من هنا




[…] اقرأ قصة تزوجت قاصرة من هنا […]