ما تبقّى منّا (قصة قصيرة 2)

ما تبقّى منّا

بقلم: صباح البغدادي

 

 

المشهد الأول: ما بين الصواب والخذلان

 

بين الصح والخطأ، دائمًا هناك منطقة مشبوهة لا يمكن تفسيرها بسهولة، لكن هناك نوع من الخطأ لا يُغتفر… ليس لأنه مؤلم من الآخرين، بل لأنه يأتي من نفسك.

كنتُ أنا أساس الأذى لنفسي، ألقيتُ بقلبي في طريقٍ مليءٍ بالشوك، وظننت أنني قادرة على النجاة.

 

حاولت لملمة شتاتي بعد آخر لقاء بيني وبين تارا، تلك الصديقة التي كانت مرآتي في الحياة.

أغلقتُ على نفسي باب غرفتي، قطعتُ كل وسائل التواصل، وكأن العالم توقف عند تلك اللحظة التي قال فيها ذلك السراب كلمته الأخيرة ورحل.

لكن الاختناق بدأ يزداد يومًا بعد يوم، وصوت قلبي يصرخ بداخلي بلا توقف. كنت أعلم السبب، لكن كبريائي كان أقوى من اعترافي.

 

 

 

المشهد الثاني: الرسالة التي أيقظت الرماد

 

في مساءٍ هادئ، أمسكْتُ هاتفي لأجد إشعارًا جديدًا… رسالة من رقمٍ مألوفٍ حدّ الوجع.

كان مازن، صديقي القديم.

كتب يقول:

لسه فاكراني؟! أنا حتى وانتِ بعيد كنت براقبك.

 

تجمّدت عيناي على الشاشة، وداهمتني خنقةٌ مفاجئة.

لم أشعر تجاهه بشيءٍ سوى الصداقة، لكن عنادي أرغمني على الرد، وكأنني أردتُ أن أُقنع نفسي بأن الماضي انتهى، وأن قلبي صار حجرًا لا ينبض باسم أحد.

كتبت له:

أنت إيه أخبارك يا مازن؟

 

تحدثنا كثيرًا تلك الليلة… عن العمل، عن الذكريات، عن أشياءٍ لا تهمّ لكنها كانت كافية لأفتح الباب من جديد.

وفي لحظة ضعف، قلتها له:

موافقة… أعطي لنفسي فرصة معك.

 

كانت تلك الجملة بمثابة ولادة جديدة لمازن، لكنه لم يعلم أنها بالنسبة لي كانت إعدامي البطيء.

 

 

 

المشهد الثالث: الحقيقة التي حاولت تارا إنقاذها

 

تارا، التي لم تفارقني منذ أول وجعي، كانت تعلم كل ما أخفيه.

تعلم أن قلبي لم يُخلق لمازن، بل لذاك الذي جعلني أضحك من أعماقي، وأعاد لي الحياة بعد موتٍ طويل، ثم تركني بين أنقاض الذكرى.

 

في إحدى الأمسيات، حين رأتني أضحك مع مازن على الهاتف، اقتربت مني وقالت بصوتٍ حنون:

نادين، متعمليش كده في نفسك… مش لازم تكمّلي العلاقة دي، إنتِ بتحاولي تتخطي، مش تحبي.

نظرت لها بتعب ظاهري

تارا، أنا تعبت… مش عايزة أرجع لنفس الوجع تاني. يمكن مازن يكون بداية جديدة.

قطعتها بمحاوله ان تستوعب حالتها

بس البداية اللي على جرح قديم، بتنزف أكتر يا نادين.

 

ما لم أعلمه أن مازن كان يسمع الحديث كاملًا، فقد جاء في تلك اللحظة يحمل بعض الأوراق، وتوقف عند الباب دون قصد.

استمع لكل كلمة، وكل صدى حبٍّ لم يكن له.

 

ورغم ذلك، لم يغضب… لم يبتعد.

بل ابتسم بمرارة، وقال في نفسه:

“حتى لو قلبها مش ليا، أنا هفضل حواليها… يمكن الزمن يبدّل مكان الأسماء، بس مشاعرها تكفيني.”

 

مازن كان يحب نادين حدّ الجنون، حبًّا صادقًا يتقبّل أن تكون فيه مجرد مرحلة تُعالج بها جراحها من آخر.

 

المشهد الرابع: زيارة غير متوقّعة

 

مرّت أيام قليلة، وكانت العاصفة بداخلي لا تهدأ.

قررت أن أذهب إلى مازن، ليس بدافع الحب، بل بدافع الهروب من فراغٍ يبتلعني.

وقفتُ أمام باب مكتبة في الكافية يداي ترتجفان، وصوت داخلي يتمرد عليّ قائلًا: “إنتِ بتكرّري نفس الغلط يا نادين.”

طرقت الباب بخفة، ففتح مازن بسرعة كأنه كان ينتظرني منذ دهر.

 

نادين: مساء الخير يا مازن… كنت معدّيَه وقُلت أطلّ أشوفك.

مازن بابتسامة هادئة: قلبي كان حاسس إنك هتيجي… اتفضّلي.

 

جلست على الأريكة، أنظر حولي بصمت، أشعر أنني غريبة في المكان، وغريبة عن نفسي أيضًا.

لم أدرِ أن تارا كانت تحاول من بعيد إبعادي عن هذا الطريق، كانت تعرف الحقيقة التي أنكرها

أنني لم أحب مازن، بل كنت فقط أحاول أن أُنسيني ذلك الذي أعاد لي الحياة ثم اختفى.

 

تارا كانت ترى بعينيها ما لا أراه أنا…

كانت تعرف أن قلبي ما زال ينبض باسمٍ آخر، وأن كل ضحكة مع مازن ما هي إلا محاولة فاشلة لتضميد جرح قديم.

لكنّ مازن، رغم علمه بكل ذلك، لم يبتعد.

 

لقد سمع حديث تارا كاملًا تلك الليلة

سمعها وهي تقول إن نادين تحاول فقط أن تتخطى حبّها القديم، وأن علاقتها بمازن ليست إلا دواءً مُرًّا تتجرعه كي تنسى.

ورغم كل هذا، لم يغضب…

لم يُواجهني، لم يلومني.

 

بل اكتفى بالنظر إليّ بابتسامةٍ فيها وجع وصدق،

“عارف يا نادين… يمكن تكوني لسه بتحبي حد تاني، بس مش مهم. أنا هافضل حواليك… يمكن الزمن يغيّر، يمكن قلبك يسمع اسمي في يوم.”

 

كلماته اخترقت قلبي كسكينٍ مغموسة بالحنان.

في تلك اللحظة، أدركت أن مازن لا يحبني فقط… بل يحبّني حدّ الجنون.

حبًّا صادقًا يقبل أن يكون هو الجسر الذي أعبر عليه نحو النسيان، حتى لو لم أصل به إلى النهاية.

المشهد الخامس: المواجهة

 

في مساءٍ يختنق فيه الصمت، اجتمعنا نحن الثلاثة أنا، تارا، ومازن في المقهى الذي كان شاهدًا على بداياتٍ كثيرة ونهاياتٍ أكثر.

كنت أشعر أن قلبي سيخرج من صدري، وتارا تحدّق بي بعينيها اللتين تعرفان كل أسراري.

 

تارا بصوتٍ ثابت لكنه حاد:

انتو غلط، صدّقوني… علاقتكم مبنيّة على هشّ، وهتقع أول ما تهبّ ريح بسيطة.

نظرت إليّ نظرة حانية ممزوجة بالعتاب:

انتِ فعلاً صريحة يا نادين، ويمكن كمان يا مازن احترمت صراحتها… بس هل هتعرف تعيش بإحساس إنها بتحب حدّ غيرك؟

 

مازن تنفّس بعمق، رفع رأسه وقال بحزمٍ حزين:

بس هي يا تارا مش عايزة ترجع…

كأن كلماته كانت درعًا يحاول به الدفاع عني، لكنه في الوقت نفسه كان يحرق نفسه داخله.

 

نظرت إليه تارا وقالت بنبرة امتزج فيها الألم بالحقيقة:

مش عايزة ترجع عشان اللي بينهم مش اسمه مشاكل… اسمه “مين بيحب التاني أكتر”.

هي مجروحة منه لأنه سابها وهي تعبانه.

نادين صريحة لدرجة إنها حكتله كل حاجة عن حياتها،

أصلاً مفيش بنت صريحة ومميّزة زيها، الكل بيتصنّع ويكذب…

لكن هي دخلت العلاقة بقلبٍ كان لسه بيعشق الشخص ده.

أنا بلحق اللي باقي منكم… بلحق شخصين بيتأذّوا من حبّ مش في مكانه.

 

وقبل أن تُكمل، قطعتُ حديثها بصوتٍ مبحوحٍ، فيه وجع سنين:

كفاية يا تارا… خلاص.

أنا هكمل علاقتي مع مازن، مهما كان التمن.

زي ما قولتي، أنا حكيت له كل حاجة، وبرغم ده باعني اللي كنت بحبه، ومصبرش عليا،

قال نفسه طويل… بس جرحني متعمد.

ولو سمحتي، خلاص بقا… سيبيني أعيش بطريقتي، حتى لو على حساب نفسي.

 

ساد صمتٌ ثقيل، تارا تنظر إليّ بعينٍ دامعة، ومازن يطأطئ رأسه كمن يحمل ذنب العالم كله على كتفيه.

في تلك اللحظة، فهم الجميع الحقيقة

أن ما تبقّى منّا لم يكن حبًّا، بل بقايا قلوبٍ أنهكها الخذلان،

تتمسّك ببعضها خوفًا من السقوط، لا رغبةً في البقاء.

 

المشهد السادس: ساعة واحدة فقط

 

مرّت أيام بعد تلك المواجهة الصاخبة، وكل شيء بدا وكأنه عاد إلى الهدوء،

لكن الهدوء لم يكن سوى ستارٍ يخفي خلفه وجعًا أكبر.

تارا، التي لم تعرف يومًا كيف تقف متفرجة على وجعي، قررت أن تتصرف

أن تُحدث ذلك الغائب الذي كسرني، علّه يُعيد لي جزءًا من نفسي التي سُرقت مع رحيله.

 

جلست أمام هاتفها، بحثت عن اسمه في سجلاتي القديمة،

قلبها يخفق بشعورٍ غريب بين الخوف والأمل.

كتبت أول حرفٍ من اسمه… ثم الثاني…

لكن قبل أن تضغط زر الإرسال، ظهر ظلّي خلفها.

 

نادين بصوتٍ مرتجف:

تارا! بتعملي إيه؟!

تارا ارتبكت، حاولت إغلاق الشاشة، لكنّي أمسكت يدها وقلت برجاءٍ مخنوق:

بالله عليكي… متعمليش كده.

هو خلاص، أخد قرار البُعد، عملي بلوك من كل حاجة.

نظرتُ إليها والدموع تتجمع في عينيّ، أكملت بصوتٍ مبحوحٍ:

أنا كنت محتاجاه أووي يا تارا…

كنت محتاجة ساعة واحدة بس…

ساعة أحكيله فيها كل اللي وجعني، سواء منه أو من اللي حصل في حياتي بعده.

كنت عايزة أشرحله إزاي بسبب ضعفي الكل استقوى عليا…

كنت عايزة بس ساعة واحدة، بس لقيته عاملي بلوك.

 

سقطت دمعة على وجهي وأنا أتمتم:

الحب ضعف… وهو ضعفني.

اللي قالّي “اتقوي بيا”، هو نفسه اللي كسر قوتي.

 

قاطعتني تارا وسط انفعالي، صوتها مختلط بالدهشة والحزن:

عشان كده لجأتي لمازن؟!

طب ذنب قلبه إيه يا نادين؟!

هو بيحبك بصدق، وإنتي بتستعمليه تخرجي من وجعك!

 

نظرت إليها بصمتٍ طويلٍ، ثم همست:

أنا عارفة يا تارا…

بس أوقات الوجع بيخلينا نمدّ إيدينا لأول يد نلقاها، حتى لو مش هتشيلنا للآخر.

 

تارا جلست بجانبي، احتضنتني وهي تهمس:

اللي محتاجاه مش رسالة، ولا تبرير… اللي محتاجاه إنك تسامحي نفسك.

 

وبقي المشهد معلّقًا بين دمعةٍ واعترافٍ،

بين حبٍّ راحلٍ، وآخر يحاول النجاة من بقايا قلبٍ مكسور.

للمزيد من القصص والمقالات المميزة ✨
تابعونا على
عوالم من الخيال



تابعونا على فيسبوك

Visited 1 times, 1 visit(s) today

6 تعليقات

  1. جربي ممكن تنسي كل حاجه وتعيشي حياة حلوة ويكون عوض ليكي بعد تعبك ده كلو

  2. مرورك أجمل♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *