مرّ العُمر
بقلم: صباح البغدادي
المشهد الأول: انتظار لا ينتهي
من أصعب ما يمرّ به الإنسان أن يعيش عمره في انتظار…
الانتظار موتٌ بطيء، يُهلك الروح قبل الجسد.
أن تنتظر كلمة تفسّر صمتًا، أو عودة شخصٍ غاب بلا سبب، أو حتى تفسيرًا لسوء فهمٍ أفسد علاقةً كانت بالأمس وطنًا للقلب.
كم من علاقةٍ انتهت بسوء فهم…
طرفٌ ينتظر التوضيح، وطرفٌ آخر سيطر عليه الكبرياء.
وكأنّ العناد لغة الموتى، لا يسمعون نداء الاشتياق ولا يرون ما تفعله الغيابات بالقلب.
ليليان كانت تجلس شاردة أمام شاشة هاتفها، تتصفّح بلا هدف.
حتى جاءها إشعار من موقع “فيسبوك” قلب هدوءَ يومها رأسًا على عقب.
المشهد الثاني: ظلّ الصديقة
كانت تتحدث مع صديقتها المقرّبة “كاميليا” عبر الماسنجر.
طمنيني عنك يا بنت؟
أنا بخير يا ليليان وإنتِ؟
تنهدت ليليان بخفوت وقالت: الحمد لله يا كيمي، كويسة أهو.
كاميليا لاحظت الحزن في نبرة صوت صديقتها، ذلك الحزن الذي لم يفارقها منذ اختفى حبيبها في ظروفٍ غامضة.
قالت بحنان: أنا فاضية النهارده، إيه رأيك نخرج شوية نغير جو؟
ردت ليليان: تمام، مستنياكِ.
جلسَتا في أحد المقاهي المطلة على البحر، تحدّثتا كثيرًا، وضحكتا قليلًا، لكن عيون ليليان كانت تقول ما لا تستطيع الكلمات قوله.
وبعد ساعتين، عادت كلٌّ منهما إلى بيتها، يحمل قلبها وجعًا لم يشفَ بعد.
المشهد الثالث: طلب صداقة غامض
قبل سنتين، كانت ليليان تتصفح مواقع الموضة، تبحث عن ألوانٍ جديدةٍ لربيع ذلك العام.
وفجأة، دوّى إشعارٌ جديد في هاتفها:
“تم إرسال طلب صداقة من Ethan.”
تجمدت نظراتها على الاسم لثوانٍ. من يكون؟ ولماذا هي تحديدًا؟
ابتسمت على غباء تساؤلها، ثم جلست مترددة بين القبول والرفض.
وفي لحظةٍ من ضعفٍ أو فضول، ضغطت “قبول”.
لم تعلم أنها بتلك الضغطة الصغيرة، قبلت على شقاءٍ طويلٍ سيبدّل عمرها إلى جرحٍ دائم.
أغلقت الهاتف، ونامت في سكونٍ عميقٍ لم تعرف أنه سيكون آخر ليلة هادئة في حياتها.
المشهد الرابع: الرسالة الأولى
في صباح اليوم التالي، أمسكت هاتفها كعادتها.
قالت في نفسها: يا ترى مين إيثان ده؟
قطع صوت الإشعار تفكيرها. رسالة جديدة عبر الماسنجر:
How r u?!
ترددت كثيرًا، ثم كتبت أخيرًا:
I’m fine. And u?!
جاء الرد سريعًا مصحوبًا بضحكة مكتوبة:
Hhhhhhhh U speak arabic?!
رفعت حاجبيها دهشة. كيف يتحدث عربيًا بهذا الشكل؟
هل هو مصري؟ أم فقط يجرب؟
كتبت بخجل:
أنت بتتكلم عربي؟
جاء الرد خلال ثانية واحدة فقط:
نعم، أحكي عربي، في اعتراض؟
تسارعت أنفاسها وهي تكتب:
لا أبدًا، بس غريب يعني… احكيلي عنك.
ردّ بصوتٍ مسجّل:
اسمي إيثان، من أستراليا، بلد النصف الجنوبي، عاصمتها كانبرا… محتاجة تعرفي أكتر؟
تبع صوته ضحكةٍ جذّابةٍ جعلت قلبها يرتبك بلا إذن.
وفجأة، وردها اتصال منه عبر الماسنجر.
قالت متفاجئة: أنت غريب بتتصل كده عادي؟
ردّ ضاحكًا: عادي دقيتلك هيك، جربت حظي إذا بتردي أو لا.
ضحكت بخجل وقالت: لا بجد أنت مش استرالي خالص، أنت شامي ولا إيه؟
ابتسم وقال: متل ما قلتلك، أبي استرالي، بس أمي لبنانية من صيدا.
أنا مهندس كمبيوتر، وعمري 25 سنة.
قالت: صيدا بعرفها كتير، ولو رحت بيروت بفوت دايمًا عالروشة.
سكت للحظة ثم قال بدهشة: لحظة! أنتِ بتحكي شامي؟!
توترت ليليان وقالت بسرعة: أصل… أصل…
قاطعها بلطف: أصل شو؟ نحنا صرنا رفقات، احكي الحقيقة!
ضحكت بخجل وقالت: أنا نصي مصري ونصي لبناني، بس بروح مصر كتير.
المشهد الخامس: حبّ عبر المسافات
مرت الأيام، وصار الحديث بينهما عادة لا تنتهي.
كان يرسل لها كل صباح “صباح الخير يا لوليتا”، وكانت ترد بابتسامةٍ لا تفارق وجهها طوال اليوم.
حدثته عن أبيها الراحل، وعن أمها التي فقدت ابتسامتها منذ زمن.
وحكت له كيف انتقلت إلى بيروت بعد وفاة والدها لتعيش مع والدتها، وكيف تزور أقاربها في الإسكندرية من حينٍ إلى آخر.
كان إيثان بالنسبة لها أكثر من صديق، كان ملاذًا من ضجيج العالم، وطنًا عبر شاشةٍ صغيرة.
أحبته دون أن تراه…
أحبته حتى صارت تنتظر صوته أكثر من دقات قلبها.
المشهد السادس: الاختفاء
لكن في يومٍ رماديٍ حزين…
اختفى إيثان.
أغلق حساباته كلها، وتبخر من عالمها كما جاء.
جلست ليليان تبكي أمام شاشةٍ سوداء، تصرخ في صمت: “ليه يا إيثان؟! ليه اختفيت؟!”
سنةٌ كاملة مرّت وهي تبحث عنه، تبكيه كما يُبكى الميت.
قالت لنفسها في مرارة: أنا السبب… أنا اللي سمحتله يدخل حياتي ويطلع منها وقت ما يحب.
اللعنة على قلبي اللي صدّق!
المشهد السابع: صوت الصديقة
فاقت من شرودها على صوت كاميليا وهي تقول بحزم:
مش كفاية بقى يا ليليان!
نظرت إليها ليليان بعينين غارقتين بالدموع.
كاميليا وضعت يدها على كتفها وقالت:
أنا عرفاك من نظرة عينيك. من أول ما اتعرفنا، وإحنا بقينا أكتر من أخوات.
ولا تنسي، لا أنا ولا إنتِ عندنا إخوات، فإحنا لبعض.
ضحكت بخفة وأضافت: وبعدين متنسيش أنا اللي علمتك تتكلمي مصري، فاهمه يا ست لبنانيه؟
ضحكتا سويًا، لكن في قلب ليليان كان الحزن لا يزال حاضرًا.
المشهد الثامن: عودة الوجع
جاء صوت والدتها من خلف الباب:
ليليان، إيمت رح نرجع عَ بيروت؟ بدي سافر، تركت كل شي هُنيك مشانك، ما بدك ترجعي؟
تجمدت ملامح ليليان، وكأن أحدهم انتزع الهواء من صدرها.
قالت بصوتٍ متقطع: أرجع؟ أرجع مشان شو؟ مشان أتذكر كل الوجع؟
توقفت الكلمات في حلقها، وغصّة مؤلمة خنقتها.
ركضت إليها أمها، وضمّتها بحنانٍ أموميٍ عميق، وهي تهمس:
بعرف وجعك يا بنتي، بعرف كل شي… بس العمر عم يمر، يا ليلي، العمر عم يمر.
رفعت ليليان رأسها، نظرت من النافذة نحو البحر الممتد أمامها،
وقالت بصوتٍ مبحوحٍ كأنه نابع من قلبٍ مكسور:
يمكن العمر فعلاً مرّ… بس قلبي لسه واقف عند أول كلمة قالها إيثان… “How r u?”
المشهد التاسع: الرسالة التي كسرت العمر
قالت والدتها بصوتٍ حنونٍ متعب:
خلص حبيبتي، إذا ما بدك ترجعي، برجع أنا لحالي، بخلص يلي وراي وبرجع لك، اتفقنا عيوني؟
نظرت إليها ليليان بابتسامةٍ باهتةٍ لم تلامس شَفَتيها.
قالت بهدوءٍ كاذب: اتفقنا، وبهاليومين رح ضل عند كاميليا.
احتضنتها كاميليا بحبٍ صادقٍ وضحكت بخفة:
ده يوم تسليه ورغي يا أستاذ ممتاز!
ارتفعت ضحكتهما معًا، لكن في عيون ليليان كانت هناك دمعة تنتظر لحظةَ سقوطها.
تأملت كاميليا صديقتها وقالت بتفكيرٍ شارد:
إيه رأيك يا لوليتا لو…
توقفت فجأة عندما رأت وجه ليليان يتبدّل ولون عينيها يظلم، فذلك الاسم كان سلاحًا من الماضي.
ابتلعت كاميليا كلماتها وقالت معتذرة:
آسفة والله، طلع الاسم مني من غير قصد، انسي يا لولي.
هزّت ليليان رأسها وقالت بصوتٍ خافتٍ كأنها تحاول إخفاء الارتجاف داخله:
خلاص يا كاميليا، حصل خير.
ضحكت كاميليا بخفة مصطنعة وقالت:
طالما قولتي كاميليا مش كيمي، يبقى لسه زعلانة.
ضحكت ليليان وهي تحتضنها بسرعة:
لا يا كيمي، ما بقدر ازعل منك، بتعرفيني بنزعج من الاسم هاد كتير.
رفعت كاميليا حاجبها بخفة وقالت بلهجة لبنانية مازحة:
بعرف يا أختي، وطالما قلبتي على لبناني، يبقى صافي يا لبن.
ضحكتا من جديد، لتكسر تلك النغمة الحزينة التي تسكن بين كلماتهما.
قالت ليليان مبرّرة:
انتِ عارفة لما بتكلم بسرعة أو مش محضّرة كلامي، بتطلع لهجتي الحقيقة.
ردّت كاميليا بلطفٍ وهي تضع يدها على يد صديقتها:
عارفة يا روحي، من غير أي تبرير. المهم دلوقتي…
نظرت إليها ليليان باستغراب:
المهم عندك قولي بقى!
تنهدت كاميليا وقالت بتردد:
المهم يا ستي… إيه رأيك نسأل چيلان عليه؟
رفعت ليليان رأسها بحدةٍ وغضبٍ واضح:
لا طبعًا! ازاي عايزاني أعمل كده؟ أنا مش قليلة يا كاميليا!
نسيتي آخر مرة حصل إيه؟!
سكتت كاميليا مرتبكة، بينما عادت ذاكرة ليليان للوراء…
سنتان مضتا، وما زال الجرح ينزف كأنه حدث البارحة.
المشهد العاشر: ذكريات الطعنة
في ذلك اليوم القديم، كانت كاميليا تصرخ من فرحتها:
يا لي ليييييي، انتي فين؟
خرجت ليليان من غرفتها مسرعة وهي تقول بملل:
أنا هنا يا بنت، مالك بتزعقي كده؟
ابتسمت كاميليا بحماس وهي تلوّح بهاتفها:
لقيت بنت باعتالي طلب صداقة، اسمها چيلان، وقبلته.
وفجأة دخلت كلّمتني، بتقول إنها من طرف إيثان!
لم تكن كاميليا تلاحظ ملامح صديقتها التي بدأت تتبدّل من الدهشة إلى الغيرة، ثم إلى وجعٍ يشبه انكسار الزجاج.
كانت تتكلم بعفوية، بينما ليليان تشعر أن الهواء من حولها أصبح أثقل من أن يُتنفس.
قالت كاميليا بفرحةٍ طفولية:
مش مصدقة إزاي عرفتني، شكلها قريبة منه!
نظرت ليليان إليها بصمتٍ طويل، ثم قالت بمرارةٍ مكبوتة:
أفرح؟ أفرح بإيه يا كاميليا؟
أفرح إنه بعت واحدة صاحبتك عشان تطمنّي عليه؟
ولا أفرح إنها كلمتك بدل ما يكلّمني هو؟
ولا أفرح إنه قدر يقفل حساباته شهور، وكأنه ما كان؟
هو مش معاه رقمي؟ ولا خلاص خلص دوره في حياتي؟
قوليلي يا كيمي، أفرح ليه؟
وقطع حديثهما صوت إشعار جديد من هاتف كاميليا.
قالت بارتباك:
دي چيلان… باعتالي رسالة تانية.
عندما فتحتها كاميليا، شحب وجهها فجأة كأنها رأت شبحًا.
اقتربت ليليان وقالت بقلق:
مالك يا كيمي؟ في إيه؟
ترددت كاميليا، ثم همست:
ما بعرف شو أقولك يا لولي…
خطفَت ليليان الهاتف من يدها بعصبيةٍ مرتجفة.
قرأت الرسالة بعينين دامعتين، وكان محتواها كطعنةٍ في قلبها:
“هاد الرسالة لرفيقتك ليليان…
إيثان بيخبرك إنه ما عاد بدو ياكِ.
بيقلك لا تنتظريه، هو بيعترف إنك بنت مميزة،
بس ما عاد بدو يكمل هيك قصة.”
تجمدت ملامحها، وسقط الهاتف من يدها.
لو كان للقلوب صوت، لسمع العالم كله صوت تحطم قلبها في تلك اللحظة.
سقطت دموعها على الأرض بصمت، دموعٌ لم تكن ضعفًا، بل وداعًا لعمرٍ من الانتظار.
المشهد الحادي عشر: الغياب الأخير
مرّت الأيام ثقيلة على ليليان، كل لحظة فيها كانت كسنين من الوحدة والخذلان.
لم تعد تفتح هاتفها كثيرًا، فقد صار الضوء الخارج منه يُذكّرها برسالةٍ أنهت كل شيء.
كاميليا كانت تحاول أن تُعيدها إلى الحياة، لكن جراحها كانت أعمق من أن تُشفى بكلمة.
وفي إحدى الليالي، وبينما كانت كاميليا تتصفح هاتفها، لفت انتباهها منشور غامض من حسابٍ باسم چيلان.
كان المنشور يحمل جملة قصيرة:
“الليلة الأخيرة قبل الحقيقة… كل شيء سيتغيّر.”
همست كاميليا بقلق:
دي مش طبيعيه يا لولي، البنت دي في وراها حاجة.
نظرت ليليان إليها بلا اهتمام:
سيبيها يا كيمي، خلاص، مابقاش يفرق معايا حاجة.
لكن كاميليا لم تصمت، كانت تشعر أن هناك لغزًا لم يُحل بعد.
قضت الليلة تبحث في حساب چيلان، حتى وجدت محادثة قديمة بينها وبين إيثان، تؤكد أن چيلان هي التي اخترعت تلك الرسالة، وأرسلتها من تلقاء نفسها لتفرّق بينهما، لأنها كانت تحب إيثان في السر منذ البداية.
شهقت كاميليا من الصدمة وقالت لنفسها:
يا ربي دي المجنونة عملت كده عشان تحرق قلب لولي!
في الصباح، واجهت ليليان بالحقيقة.
قالت بصوتٍ متردد:
اسمعيني كويس يا لولي، الرسالة اللي وصلِتك من سنتين… مش من إيثان!
چيلان هي اللي بعتها، هي كانت بتحبه، وكرهت فكرة إنه يفضل معاكي.
هو سافر عشان شغل فعلاً، بس لما رجع ما لقى حسابك ولا لقى أي وسيلة توصّلك.
صمتت ليليان، كأن الكلام اصطدم بجدار قلبها.
لم تصدّق في البداية، ثم وجدت صورًا ومحادثات تؤكد كل ما قالته كاميليا.
شهقت ودموعها تنهمر بحرقة:
يعني أنا… ظلمته؟!
احتضنتها كاميليا وقالت:
مش ذنبك يا روحي، دي لعبة حقيرة لعبتها چيلان.
المشهد الأخير: اللقاء بعد الغياب
بعد أسبوع، قررت ليليان السفر إلى بيروت لإتمام ما تبقّى من أوراق الجامعة.
وفي المطار، كانت تحمل حقيبتها وعينيها متعبتين من السهر، لا تعلم أن القدر يُخفي لها مفاجأة العمر.
بين زحام المسافرين، سمعت صوتًا مألوفًا…
صوتٌ نسيته، لكنه ظل ساكنًا في وجدانها كأن الزمن لم يمضِ.
إيثان:
ليليان؟!
تجمدت في مكانها، التفتت ببطء، وعندما التقت عيناها بعينيه، انهارت الدموع بلا إذن.
اقترب منها بخطواتٍ حذرة، كأنّه يخاف أن تكون مجرّد خيال.
قال بصوتٍ متهدّج:
يا الله، بعد كل هالسنين… أخيرًا شفتك.
همست وهي ترتجف:
ليش اختفيت؟ ليش ما حاولت توصلني؟
تنهد إيثان وهو ينظر إليها بعينين أرهقهما الشوق:
حاولت، بس كل حساباتك كانت مسكرة، ورقمي تغير، واللي صار بينا كان سوء فهم كبير.
چيلان هي اللي بعتت الرسالة… ما كنت بعرف إلا بعدين.
سقطت دمعة حارة على خدها وقالت:
وأنا صدقت… صدقت كل كذبة، وكرهت نفسي.
اقترب منها أكثر وهمس:
خلص، لا تبكي… كل شي راح، اللي راح راح.
المهم إني لقيتك، ولو بعد العمر كله.
ابتسمت ليليان وسط دموعها وقالت بخفوتٍ يشبه النبض الأخير:
مرّ العمر يا إيثان… بس رجعت لي روحي معك.
مدّ يده نحوها، تشابكت أناملهما بصمتٍ يشبه الصلاة،
وفي عيون الاثنين كان العُمر يبتسم للمرة الأولى منذ أن افترقا.





تسلم يا رب♡
مبدعة زي العادة