بتوقيت العاشرة (قصة قصيرة 2)

بتوقيت العاشرة

للكاتبة صباح البغدادي

 



المشهد الثامن: تسجيل الموت

 

كانت الغرفة يغمرها ضوءٌ خافت، والساعة تشير إلى العاشرة تمامًا.

جلس الضابط إسماعيل حسن أمام شاشة الحاسوب، يراجع اللقطات للمرة الأخيرة، وصوت أنفاسه يتصاعد مع كل ثانية تمرّ.

لكن الزمن توقّف فجأة عند مشهدٍ واحدٍ فقط…

 

الدكتورة أسماء تمسك بهاتفها، تخفيه بين ملفاتها، وتبدأ في التصوير من زاويةٍ ضيقة من الغرفة، حيث كانت الممرضة ناهد تقف أمام مدير المستشفى.

 

كان المدير يتحدث بحدة، وعيناه تضيقان في توترٍ ظاهر:

ـ “العملية دي لازم تتم بكرة، والعضو لازم يوصل في معاده، مفهوم؟”

 

ارتجفت ناهد وهي تردّ عليه بصوتٍ مبحوح:

ـ “بس يا دكتور ده خطر… ممكن حد يكتشف!”

 

ارتفعت أنفاس الدكتورة وهي تُغلق الهاتف بسرعة، وتضعه في جيبها بخوفٍ واضح.

لم تكن تعلم أن تلك اللقطة التي سجلتها ستكون آخر ما تراه في حياتها…

تلك اللحظة كانت البداية والنهاية معًا.

 

المشهد التاسع: الخيط المقطوع

 

اتكأ إسماعيل للخلف على مقعده، حدّق في الشاشة بدهشةٍ ممزوجة بالذهول، ثم تمتم بصوتٍ مبحوح:

ـ “يعني الدكتورة كانت بتصوّرهم… مش العكس!”

 

في تلك اللحظة، دخل محمود زميله، بخطواتٍ متوترة يحاول إخفاءها خلف ملامحٍ جامدة.

لكن عينيه فضحتاه… كانت تحملان ارتباكًا خفيًّا.

 

نظر له إسماعيل نظرةً ثابتة وقال بنبرةٍ صارمة:

ـ “شُفت الفيديو يا محمود؟ شكل اللعبة اتكشفت.”

 

ابتسم محمود ابتسامة باهتة، وقال محاولًا استعادة رباطة جأشه:

ـ “واضح إن الدكتورة كانت بتتجسس على الكل… كانت حشرية زيادة عن اللزوم.”

 

أجابه إسماعيل وهو يثبّت نظره فيه:

ـ “ولا يمكن كانت بتحاول تبلّغ عن جريمة؟”

 

صمت محمود لثوانٍ طويلة، ثم قال بصوتٍ خافتٍ مليءٍ بالغموض:

ـ “أحيانًا اللي بيدوّر على الحقيقة… بيتخلص منها بنفسه.”

 

نظرة إسماعيل كانت كالسهم، اخترقت وجه زميله، لكنه تمالك نفسه… فقط دوّن ملاحظة صغيرة في دفتره، وهو يتمتم في سره:

“فيه حاجة مش راكبة… ودي مش نهاية الخيط.”

 

 

المشهد العاشر: الاعتراف المزدوج

 

في غرفة التحقيق الصغيرة، جلست ناهد الممرضة، وجهها شاحب، ويديها ترتجفان كطفلةٍ مذعورة.

الدموع سالت بلا توقف، وصوت عقارب الساعة كان يطغى على أنينها.

 

دخل إسماعيل بخطواتٍ باردة، يحمل الهاتف الذي يحوي التسجيلات.

اقترب منها ووضع الهاتف أمامها قائلاً بنبرةٍ حادةٍ هادئة:

ـ “هو ده الموبايل اللي صورك مع المدير… صح؟”

 

نظرت إليه ناهد بعينين زائغتين، وقالت وهي تلهث بين شهقاتها:

ـ “هي اللي بدأت… الدكتورة هي اللي صوّرتنا وهددتنا إنها هتقدّم الفيديو للنيابة!”

 

اقترب منها إسماعيل أكثر، صوته ازداد صرامة:

ـ “وكنتي لوحدِك لما رُحتلها؟”

 

انهارت ناهد، ودفنت وجهها بين كفيها وهي تهمس بصوتٍ مرتجفٍ يكاد لا يُسمع:

ـ “كنت خايفة… مكنتش ناوية أذيها. رُحت لمحمود جارنا أطلب مساعدته… قلت له بس يخلّيها تمسح الفيديو. لكن هو…”

 

رفعت رأسها والدموع تلمع في عينيها:

ـ “هو اتصرّف بطريقته!”

 

تجمّد وجه إسماعيل للحظة، ثم خرج من الغرفة دون أن ينبس بكلمة…

لكنه كان يعلم أن الحقيقة أصبحت أقرب مما يتخيّل.

 

 

المشهد الحادي عشر: سقوط القناع

 

في مكتب التحقيق، كان الجو مشحونًا بالصمت، والهواء يثقل صدر كل من فيه.

الساعة على الحائط تشير إلى العاشرة تمامًا… نفس التوقيت الذي بدأت فيه كل الخيوط.

 

وقف إسماعيل أمام محمود وقال بنبرةٍ حادةٍ تخنقها المرارة:

ـ “كل الخيوط بتوصلك يا محمود… الممرضة راحتلك، وإنت استغلّيت خوفها. وطمعك خلاك تشاركها الجريمة!”

 

ضحك محمود ضحكة قصيرة مائلة إلى الجنون، ثم قال بسخريةٍ باردة:

ـ “كنت فاكر نفسك أذكى من كده يا إسماعيل. الدكتورة كانت هتفضح شبكة كبيرة جوه المستشفى. وأنا؟ اخترت أعيش بدل ما أموت زيها.”

 

اقترب إسماعيل خطوة للأمام، صوته انخفض لكنه صار أكثر خطرًا:

ـ “بس النهاية هي اللي بتكتب مين اللي عاش صح… ومين اللي مات وهو حي.”

 

وضع سلاحه على المكتب بهدوء، ثم نظر إلى الضباط خلف الباب وقال بحزمٍ قاطع:

ـ “قبضوا عليه.”

 

بينما يُقتاد محمود خارج الغرفة، كانت نظراته تائهة بين الندم والغرور…

أما إسماعيل فبقي واقفًا مكانه، يتنفس بعمقٍ، كأنه خرج للتو من معركةٍ مع روحه.

 

 

المشهد الأخير: بتوقيت العاشرة

 

خرج إسماعيل من المكتب بعد ساعاتٍ طويلة من التحقيقات.

كانت السماء الرمادية تتفتح على خيوط فجرٍ باهتة، كأن المدينة تنزف من عيونها تعبًا وصمتًا.

 

وقف أمام النافذة، نظر إلى الشارع الخالي وهمس لنفسه:

ـ “كل الأسرار بتبان في وقتها… بس الغريب إن كل الجرائم دي بدأت وانتهت… بتوقيت العاشرة.”

 

مدّ يده إلى الملفات، أغلق آخر ورقة بخطٍ ثابتٍ ودوّن في تقريره الرسمي:

 

“الدكتورة أسماء ماتت وهي بتحارب جريمة أكبر من عمرها، لكن الحقيقة انتصرت… حتى لو متأخرة.”

 

ثم أطفأ النور، وخرج من المكتب بخطواتٍ بطيئة، تاركًا وراءه صدى جملةٍ واحدة…

جملة ستبقى محفورة في ذاكرة كل من قرأ الملف:

 

“العاشرة… كانت ساعة الموت والحقيقة معًا.”

المشهد الثاني عشر: بين الظلال والضوء

 

انفتح باب المكتب فجأة، قبل أن يغادر إسماعيل تمامًا.

كانت ناهد الممرضة واقفة، وجهها شاحب كأن الليل لم يخرج من ملامحها بعد.

قالت بصوتٍ مرتجف:

ـ “أنا… أنا مش قادرة أعيش بالذنب ده يا باشا. كل ليلة بشوفها في منامي، بتبصلي بعينيها وتقولّي ليه سكتّي؟”

 

تقدّم إسماعيل منها بخطواتٍ هادئة، وقال بنبرةٍ متعبة ولكنها حنونة:

ـ “الندم أول خطوة في طريق التوبة يا ناهد. بس المهم إنك تقولي كل اللي تعرفيه.”

 

انفجرت بالبكاء وهي تقول:

ـ “كل حاجة بدأت من فوق… المدير كان بياخد أوامر من ناس برا المستشفى، ناس كبار. ومحمود كان بيستغل الموقف عشان يصعد، عشان يثبت إنه مهم.”

 

رفع إسماعيل حاجبيه بدهشةٍ ممزوجة بالغضب:

ـ “يعني الجريمة دي مش نهاية، دي مجرد باب لجريمة أكبر…”

 

نظرت إليه ناهد بخوفٍ وقالت:

ـ “في ملفات… في خزانة المدير، فيها أسماء وأرقام حسابات. بس محدش يقدر يلمسها، لأن كل اللي حاول… اختفى.”

 

ساد الصمت للحظة، ثم قال إسماعيل بحزم:

ـ “يبقى لازم أفتح الباب اللي محدش قدر يفتحه.”

 

المشهد الثالث عشر: الملفات المحظورة

 

كانت الساعة تقترب من العاشرة مساءً هذه المرة، حين دخل إسماعيل المستشفى بصحبة قوةٍ صغيرة من الضباط.

المكان بدا خاليًا إلا من صدى خطواتهم ووميض أضواء الطوارئ.

اقترب من مكتب المدير، أدخل المفتاح الذي حصل عليه من محمود قبل ساعات، وفتح الخزانة الحديدية.

 

الهواء البارد المنبعث من الداخل جعل جسده يقشعر…

ملفات، وأوراق، وأسماء…

كلها تشهد على منظومة فساد وبيع أعضاء استمرت لسنوات تحت غطاءٍ طبي.

 

تمتم إسماعيل وهو يتصفح الأوراق:

ـ “الدكتورة كانت عارفة كل ده… وكانت بتحاول توقفه لوحدها.”

 

رفع نظره إلى سقف الغرفة كأنه يخاطب روحها:

ـ “حقك مش هيضيع يا أسماء… أقسم بالله مش هيضيع.”

 

ثم أخرج هاتفه وبدأ بتصوير كل المستندات، بينما يده ترتجف من هول ما يرى.

 

 

المشهد الرابع عشر: نهاية الخيوط وبداية النداء

 

في اليوم التالي، امتلأت قاعة النيابة العامة بضباط التحقيق والصحفيين.

الوجوه متوترة، والملفات أمامهم تفيض بالأسرار.

 

وقف إسماعيل أمام وكيل النيابة وقال بنبرةٍ ثابتة:

ـ “كل شيء بدأ بخوف… وانتهى باعتراف. الدكتورة أسماء كانت الشاهد الوحيد على أكبر شبكة تجارة أعضاء في المدينة، ودفعَت حياتها تمنًا للصدق.”

 

سأله وكيل النيابة:

ـ “ومحمود؟”

 

ردّ إسماعيل وهو يشيح بنظره إلى الأرض:

ـ “اعترف بكل شيء… بس بعد فوات الأوان. الحقيقة خرجت للنور، بس أرواح كتير راحت في السكة.”

 

ارتفع صوته قليلًا:

ـ “لكن اللي ماتوا مش هيروحوا هدر. لأن كل ورقة هنا… هتفتح ملفات جديدة، وهتخلّي العدالة تقوم.”

 

 

المشهد الأخير: صدى العاشرة

 

عاد إسماعيل إلى مكتبه بعد انتهاء الجلسة، جلس في الظلام، لم يُشعل النور.

فتح النافذة، ونظر إلى المدينة التي بدأت تستيقظ من نومٍ طويلٍ على وقع الحقيقة.

الساعة كانت تشير إلى العاشرة تمامًا… نفس التوقيت الذي دوّن فيه النهاية في تقريره الأول.

 

همس بصوتٍ خافتٍ كأنه يحدّث الغائبين:

ـ “كل حاجة حصلت في العاشرة… كأن الزمن كان بيستنّى اللحظة دي. يمكن ربنا اختارها تكون ساعة الحق.”

 

ثم أغلق دفتره، وابتسم ابتسامةً خفيفة فيها وجعٌ وارتياح معًا، وقال لنفسه:

ـ “يمكن العدالة بتتأخر… بس عمرها ما بتغيب.”

 

خرج من المكتب ببطء، وخلفه على الحائط انعكاس عقارب الساعة…

تتحرّك في صمتٍ، وتدقّ العاشرة من جديد.

للمزيد من القصص والمقالات المميزة ✨
تابعونا على
عوالم من الخيال



تابعونا على فيسبوك


Visited 1 times, 1 visit(s) today

2 تعليقات

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *