لعبة بابلز
بقلم: صباح البغدادي
المشهد الأول: شكوك في الظل
دخل الضابط فادي إلى المكتبة الهادئة بخطوات متوترة، كانت عيناه تائهتين بين رفوف الكتب وكأنه يبحث عن فكرة تنقذه من بحر الغموض الذي غرق فيه منذ بدأت سلسلة الجرائم الغريبة.
جلس على المقعد الجانبي، وضع كفيه على رأسه محاولًا أن يجمع خيوط القضية، ولكنها كانت متشابكة كشبكة عنكبوتٍ نسجتها يد خفية لا تُرى.
تردّد صدى السؤال ذاته في ذهنه: من هو X؟ ومن يقف وراء كل تلك الجرائم التي تُنفَّذ باحتراف يثير الرعب؟
المشهد الثاني: عبث سليم
اقترب منه صديقه وزميله في التحقيق، سليم، يحمل ملفًا بيده وابتسامة واسعة على وجهه لا تناسب الموقف أبدًا.
قال بنبرة ساخرة:
يا عم المفتش كرومبو، وصلت لأي؟
رفع فادي نظره إليه ببطء، ثم قطّب حاجبيه باستغراب وهو يشير إلى ما في يده.
هو إيه اللي في إيدك ده يا سليم، يا فخر المخابرات؟
أجابه سليم بكل براءة وهو يفتح الكيس أمامه:
ده كيس ويندوز بالجبنة، بحبه أوووي… تحب تدوق؟
تجمّد فادي في مكانه، ونظر إليه نظرة حارقة، كأن شرارة الغضب اشتعلت في عينيه.
يا بني آدم! إحنا قدام مصيبة وقتل وسفك دم، وإنت قاعد بتاكل كراتيه؟!
نظر له سليم بامتعاض، وصحّح الكلمة بسرعة:
لأ يا فادي، اسمها ويندوز، مش كراتيه… مسمحلكش!
ثم ركض بعيدًا وهو يضحك بخفة، بعد أن لمح في عيني فادي بريق نيةٍ خفية تكاد تقتله من الغيظ.
ابتسم فادي بسخرية خفيفة، لكنه شعر داخله بثقلٍ غريب، وكأنّ خلف هذا العبث تكمن عاصفة قادمة.
المشهد الثالث: استدعاء عاجل
لم تمضِ سوى لحظات حتى فُتح باب المكتب بخفة، ودخل ضابط شابٌ يحمل ملامح الجدية والانضباط.
قال بصوتٍ رسمي:
حضرة القائد طالب حضرتك وسليم بيه، يا فندم.
نهض فادي فورًا، وجمّد ابتسامته الساخرة، بينما لحق به سليم وهو يلتقط آخر قطعة من كيسه وكأنها آخر لحظة له في السلام.
دلفا معًا إلى قاعة الاجتماعات، حيث كان الجو مشحونًا بالتوتر.
المشهد الرابع: العد التنازلي
وقف القائد العام أمام الطاولة، عيناه تلمعان بصرامة، وصوته يملأ القاعة بثقلٍ لا يقبل الجدال.
قال بلهجة حازمة:
أنا عايز كل تفاصيل الخروج والدخول من البلد في الفترة الأخيرة، وأي مشتبه فيه يتم إحضاره فورًا.
ثم تابع وهو يطرق على الطاولة بإصبعه:
القتل بقى بيتم باحتراف يا فادي، وأنا عايز أعرف السبب الحقيقي ورا ده كله. قدامكم ٤٨ ساعة فقط، وبعدها… محدش هيكون في أمان.
ساد الصمت القاعة، تبادل فادي وسليم نظراتٍ سريعة، بينهما خوفٌ لم يُنطق به بعد.
وفي تلك اللحظة، أدرك فادي أن اللعبة بدأت بالفعل…
ولعلّ اسمها لعبة بابلز لم يكن مصادفة.
المشهد الخامس: اللعبة في المطار
وصل فادي إلى المطار في وقتٍ متأخر من الليل، كانت الأضواء الباردة تلمع على الأرضية اللامعة كأنها مرآة تعكس وجوه المسافرين المتعبة. توقّف للحظة أمام البوابة رقم 7، حين لفت انتباهه رجلٌ يسير بخطواتٍ واثقة، تبدو عليه ملامح الهدوء الزائد عن الحد.
كان الرجل يمسك في يده لعبة صغيرة زاهية الألوان لعبة بابلز يحرّكها بين أصابعه ببطء، بينما يبتسم لموظف التفتيش ابتسامة خفيفة لا توحي بشيء.
لم يبدُ على وجهه أي ارتباك، بل كان يتصرّف بعاديةٍ مريبة، وكأن وجوده وسط الزحام جزءٌ من خطةٍ أوسع لا يدركها أحد.
راقبه فادي بعيني صقر، لكن قبل أن يقرر التحرك، اختفى الرجل فجأة وسط حشد المسافرين، تاركًا اللعبة الصغيرة على مكتب الأمن.
عاد فادي إلى مكتبه بعد ساعات، غارقًا في التفكير، يراجع المشهد في ذهنه مرارًا، كل تفصيلة فيه كانت تصرخ بأن هذا الرجل ليس عاديًا. جلس على الكرسي، ألقى معطفه على الطاولة، وأخذ يكتب ملاحظاته.
دخل سليم بخطواتٍ سريعة، يحمل كوب قهوة بيده وصوتًا مرحًا لا يناسب أجواء التوتر.
قال وهو يضع الكوب أمامه:
وصلت لحاجة يا فادي؟
تحدث فادي بشرودٍ عميق، كأنه يخاطب نفسه أكثر مما يخاطب صديقه:
في شخص بيدخل وبيخرج من المطار بنفس اللعبة… البابلز.
ابتسم سليم بخفة وقال مازحًا:
الله! يمكن بيحب الألعاب يا فادي، أو يمكن نشتري منه شوية للأطفال؟
رفع فادي نظره إليه بحدةٍ غاضبة، عروقه تكاد تنبض من صدغه، وصوته خرج حادًا:
حمار! مين اللي دخلك المخابرات؟ لعبة؟ لعبة يا تافه؟!
احمر وجه سليم من الحرج، فسكت لحظة ثم قال بجديةٍ لم يعتدها فادي منه:
طيب… ما نفتشها؟
توقف فادي، وكأن كلمات سليم كانت المفتاح الذي لم يفكر به أحد. نظر إليه طويلاً ثم قال بصوتٍ منخفضٍ مملوء بالدهشة:
يمكن… فعلاً اللعبة هي البداية.
المشهد السادس: لغز اللعبة
في صباح اليوم التالي، كان فادي يقف داخل المعمل الجنائي، والهدوء يخيّم على المكان كأنه انتظارٌ لانفجار الحقيقة. جلس أمامه سليم يحاول أن يبدو جادًا للمرة الأولى، بينما كان الفني يضع لعبة البابلز الصغيرة داخل صندوق زجاجي محكم الإغلاق.
وقف فادي خلف الزجاج، ويداه معقودتان خلف ظهره، يتأمل اللعبة كما يتأمل مجرمًا مقيدًا ينتظر اعترافه.
قال بخفوت:
شكلها بريء جدًا… بس ورا البراءة دي حاجة مش طبيعية.
رد سليم هامسًا:
ممكن تكون مخزن… أو فيها مادة؟
أشار فادي للفني:
افتحها بحذر. استخدم الأشعة أولًا.
أدار الفني الجهاز، فظهرت على الشاشة صورة داخلية دقيقة للعبة لم تكن فارغة كما تبدو.
في قلبها، أنبوبٌ صغير جدًا يحتوي على سائل شفاف، أشبه بالماء، لكن تركيزه الكيميائي مختلف تمامًا.
تقدّم فادي بخطوة، وصوته امتلأ بدهشة ممزوجة بالخوف:
ده مش مجرد سائل… دي مادة سامة. مركّب كيميائي نادر… ممكن نقطة واحدة منه تقتل في دقيقة.
اتسعت عينا سليم، وقال وهو يبتلع ريقه:
يعني… كل مرة بيعدّي فيها من المطار، بيشيل السم جوه اللعبة؟
أجابه فادي بنبرة حاسمة:
أيوه. وبيمر بيها من التفتيش بسهولة، لأنها شكلها لعبة أطفال. محدش ممكن يشك.
سكت لحظة، ثم أكمل وهو ينظر نحو الزجاج:
العبقري ده مش قاتل عادي… ده بيحوّل البراءة لسلاح.
اقترب سليم بخطواتٍ مترددة وقال:
بس في حاجة مش داخلة دماغي… ليه دايمًا يسيب اللعبة في مكان الجريمة؟ كان ممكن يخفيها.
أجاب فادي، وعيناه معلقتان بالشاشة:
علشان يقولنا إنه دايمًا سابقنا بخطوة. دي طريقته يقول فيها أنا هنا… وانتو لسه بتفكروا.
خيم الصمت على الغرفة، وصوت الأجهزة هو الوحيد الذي يقطع التوتر.
في تلك اللحظة، شعر فادي بأن الصيد بدأ فعليًا… وأنهم يواجهون عقلًا لا يقتل لمجرد القتل، بل يقتل ليثبت تفوقه
المشهد السابع: الخيط الأول
جلس فادي في غرفة المراقبة داخل مبنى المطار، أمامه عشرات الشاشات التي تُظهر الممرات، البوابات، والوجوه العابرة في صمت. كانت الأضواء الزرقاء المنبعثة من الشاشات تُلقي ظلالًا حادة على وجهه المتعب، بينما كان سليم يقف خلفه متوترًا يحمل كوب قهوة لم يشربه بعد.
قال فادي بنبرة مركّزة:
رجّع اللقطة دي… قبل ما يختفي الراجل اللي شايل اللعبة.
ضغط التقني على لوحة المفاتيح، وتوقّف المشهد عند لقطة دقيقة: رجل يرتدي بدلة رمادية، شعره مرتب بعناية، ونظرة عينيه ثابتة كمن يحفظ المكان بأكمله. في يده اليمنى لعبة البابلز، وفي اليسرى جواز سفر أزرق اللون.
اقترب فادي من الشاشة حتى كادت أن تلامس أنفاسه الزجاج.
قرّب الصورة على الجواز.
فعل التقني ما طُلب منه، وظهرت الحروف بوضوحٍ نسبي: اسمٌ مزيف، وجنسية أوروبية غير مألوفة.
قال سليم محاولًا كسر الصمت:
يعني الاسم ده مزوّر؟
رد فادي بسرعة:
أكيد. لكن بص على الوشم اللي في رقبته، شايف؟
تقدّم سليم ناظرًا نحو الشاشة، فرأى وشمًا صغيرًا على شكل دائرة يتوسطها حرف X.
همس سليم بدهشة:
ده توقيعه! نفس العلامة اللي بيتركها في كل جريمة!
ابتسم فادي ابتسامة خفيفة لا تحمل فرحًا، وقال بصوتٍ منخفضٍ كمن يهمس للغيب:
لقيناه أخيرًا… أو على الأقل لقينا صورته.
لكن قبل أن يحتفل أيٌّ منهم، انطلقت صفارة خافتة من النظام الأمني، تبعها صوت التقني المرتبك:
سيدي، في حاجة غريبة… نفس الشخص مرّ من المطار ده قبل ثلاث ساعات فقط باسمٍ مختلف!
نظر فادي إلى الشاشة الأخرى، فظهر الوجه ذاته، بنفس الهدوء، بنفس الابتسامة… ولكن بملابس مختلفة، وجواز مختلف، وبيده نفس اللعبة.
ارتجف صوت سليم وهو يقول:
يعني… كان هنا مرتين في يوم واحد؟ إزاي؟
أجابه فادي بعينين ثابتتين:
لأننا بنتعامل مع شبح بشري، مش مجرد قاتل. ده بيخطط كأنه بيكتب سيناريو فيلم، وكل خطوة محسوبة.
ثم التفت إلى التقني وأمره:
عايز كل تسجيلاته من الأسبوع اللي فات… ومطابقة حرارية للوشم ده. لازم نعرف إزاي بيعدي من كل نظام أمني كأنه مش موجود.
تبادل سليم وفادي النظرات، كانت بينهما رهبة لم يعبّرا عنها بالكلام، فقط أدركا أن مطاردة X قد بدأت فعليًا، وأن كل ثانية من الآن فصاعدًا ستكون معركة ذكاء لا مكان فيها للأخطاء.
المشهد الثامن: الوشم والسر
قضى فادي الليل بطوله داخل مكتبه، الأوراق متناثرة، والشاشات تضيء كأنها تنبض بالقلق. كان الوشم الذي ظهر على رقبة القاتل مفتاحًا غامضًا يثير داخله الفضول والرعب معًا. دائرة يتوسطها حرف X، لكنها ليست مجرد علامة شخصية… بل شعارٌ لمنظمة سرية كانت المخابرات تلاحقها منذ سنوات دون أن تتمكن من فك شيفرتها.
رفع فادي رأسه وقال بصوتٍ متعب وهو ينظر إلى سليم:
المنظمة دي اسمها ظلّ الصفر، بتتاجر في السموم والمركّبات النادرة، وكل أفرادها مجهولين الهوية… بس واضح إن X هو اليد المنفّذة لعملياتهم.
قال سليم بدهشة:
يعني كل الجرائم اللي حصلت كانت عمليات تصفية لحساب المنظمة؟
أجابه فادي وهو ينهض من مقعده بعينين تقدحان بالعزم:
بالضبط. واللعبة دي مش مجرد وسيلة قتل… دي رمز انتماء. كل عضو عندهم بيحمل نسخة منها، فيها المادة اللي صنعوها بنفسهم.
اقترب سليم من المكتب وقال بقلق:
طب نقدر نمسكه إزاي؟ ده بيختفي كأنه دخان!
نظر فادي إلى اللعبة الموضوعة أمامه داخل الصندوق الزجاجي، ثم قال بصوتٍ منخفض كمن يحدّث نفسه:
“مافيش شبح مش بيسيب ظلّ.”
ثم رفع عينيه نحو سليم وأكمل:
بس محتاج فخ من نفس النوع… لعبة زي لعبته.
المشهد التاسع: المطاردة
بعد أسبوعٍ من المطاردة، تلقّى فادي اتصالًا عاجلًا.
صوت خافت عبر الهاتف قال:
اللعبة اللي بتدوروا عليها وصلت مكتب بريد وسط المدينة… ومكتوب عليها “إلى فادي”.
هرع فادي إلى المكان، يرافقه سليم وفريق الأمن.
كانت اللعبة موضوعة داخل صندوق أنيق، لا تحمل أي بصمات. فتحها فادي بحذر، ليجد بداخلها ورقة صغيرة مكتوب عليها بخطٍ واضح:
“كل ما تبحث عنه… داخل اللعبة.”
في تلك اللحظة، دوّى صوت إنذار في المكتب، وبدأت الأضواء الحمراء تومض.
صرخ سليم:
فادي! اللعبة بتسخن!
لكن فادي ظلّ ينظر إليها بثباتٍ غريب، كأنه يقرأ ما وراء الكلمات.
قال بصوتٍ هادئ:
لا… دي مش قنبلة، دي رسالة. هو بيلعب معانا المرحلة الأخيرة.
ثم رفع نظره إلى سليم وأضاف بابتسامةٍ باهتة:
اللعبة بدأت من هنا… وهتنتهي هنا.
ساد الصمت لحظة، قبل أن تنطفئ الأنوار، ويُسمع من بعيد صوت صفارة قصيرة… نفس الصفارة التي كانت تُطلقها اللعبة في المطار.
وحين عادت الإضاءة، لم يكن فادي في مكانه.
على الطاولة، كانت اللعبة تدور ببطء… تنبعث منها رائحة غريبة، كأنها تحمل سرًّا لم يُفك بعد.
اقرأ هذه القصة مدينة الضباب من هنا




[…] اقرأو قصة لعبة بابلز من هنا […]
إبداع
شكرًا ♡