أكتب لأجلك
بقلم: صباح البغدادي
ثمة رسائل لا تُكتب لتُرسل،
بل تُكتب لتُنقذنا من ثِقل الشعور.
نكتبها كي ننجو من الحنين،
كي لا نختنق بما لم يُقال،
وكي نمنح الغياب فرصة ليبدو أقل قسوة.
في هذا الكتاب، لم أكتب عنك فقط،
بل عن كل لحظة شعورٍ لم تجد طريقها إلى الضوء.
كتبتُ عن الوجع حين يبتسم،
وعن الشوق حين يختبئ في الحروف.
“أكتب لأجلك” ليست مجرد جملة…
إنها اعترافٌ مؤجل،
ومصالحة بين القلب والعقل،
وبين ما كان… وما تمنيت أن يكون.
ومضة أولى
بعض الغياب لا يُنسى،
لأنه علّمنا كيف نحيا بنصف قلب، ونصف ذاكرة، ونصف ابتسامة.
ما لم يُقال يوم الرحيل
في ذلك اليوم…
كنتُ أبدو هادئةً أكثر مما يجب،
وأنتَ كنتَ تتحدث ببرودٍ يُشبه الوداع.
لكن في داخلي، كانت حربٌ لا تهدأ.
كنتُ أصرخ بصمتٍ:
“ابقَ، حتى لو لم يعد بيننا شيء، ابقَ قليلًا!”
لكن صوت الكرامة كان أعلى من وجعي،
فابتسمتُ بدل البكاء،
وتركتُك تمضي كأن شيئًا لم يكن.
لم تعلم أنني حين أغلقت الباب خلفك،
سقطتُ على الأرض أضمّ صدري كأنني أُسكت وجعًا لا صوت له.
️ الرسالة الأولى: بين صمت العقل واحتجاج القلب
كم من المرات وددت أن أراسلك…
وكم من المرات وقفت كلماتي على طرف أناملي، تتوسّل أن تُقال،
لكنني أمنعها… أُسكتها كما يُسكت طفل عنيدٍ بالبكاء،
كأن قلبي سجينٌ لا يُسمح له بالبوح،
وعقلي حارسٌ صارم، لا يلين ولا يرحم.
قلبي يحتجّ، يضرب جدران صدري بنداءٍ خافت:
“اكتب له، لا تترك الرسالة تموت فيك.”
لكنّ عقلي يهمس بحذرٍ موجع:
“الصمت أحيانًا أكرم من كلماتٍ تُغتال على باب التجاهل.”
فأجلس بينهما، بين نار الشوق وثلج الكرامة،
أفكر… أأكتب؟ أم أكتفي بأن أراك في مخيلتي،
تتجول بين السطور التي لم تُكتب؟
الرسالة الثانية: حين يتكلم الحنين بصوتٍ خافت
كل ليلة، أفتح هاتفي دون قصدٍ واضح،
أتصفح الرسائل القديمة، كمن يبحث عنك بين الكلمات البالية.
صوت ضحكتك يطلّ من بين السطور كنسمةٍ عابرة،
فأبتسم رغم أن قلبي ينكمش وجعًا.
أراك في كل شيء… في كوب القهوة الذي يبرد وأنا أحدّثك في خيالي،
في الأغاني التي نسيتها عمدًا كي لا أتذكرك،
وفي كل رسالة أكتبها ثم أمسحها قبل أن تصل إليك.
أكتب لأجلك… لا لأراك، بل لأشعر أنني ما زلت أتنفس وجودك.
️ الرسالة الثالثة: ما بيني وبينك… مسافة وجع
ربما لو التقينا صدفة،
لابتسمت أنت بعفويتك، وتجنّبتُ النظر في عينيك،
ليس خوفًا، بل لأن عينيك ما زالتا مأوى الحنين الذي أحاول الهروب منه.
هناك مسافة بيننا، لا تُقاس بالأمتار، بل بالوجع.
مسافة صنعتها الظروف، وباركتها العزة،
لكنّ الحنين… الحنين يختصرها في نبضة واحدة،
حين أسمع اسمك صدفة، أو أراك في وجهٍ عابر.
️ الرسالة الرابعة: حين ينهزم الحرف أمام الغياب
أكتب لأجلك…
لا لأعيد شيئًا مضى، بل لأحفظ بقايا شعورٍ لم يمت تمامًا.
فالكلمات عندي وطنٌ صغير،
كلّ حرفٍ فيه يحمل طيفك، ودفء حضورك الغائب.
أحيانًا أكتب لأشفى،
وأحيانًا أكتب لأتألم أكثر،
لكنني في كل مرة أكتب، أدرك أنك لم تغب فعلاً…
بل تسكن ما بين سطرٍ وسطر، كأنك الهامٌ لا يشيخ.
الرسالة الخامسة: حين يتأخر الرد
هل تعلم كم مرة كتبت لك رسالةٍ ثم خبأتها؟
كنتُ أنتظر أن تردّ حتى من دون رسالة،
أن تأتي إشارة، كلمة، حتى لو كانت عابرةً من الغيب.
لكن لا شيء أتى…
فهمتُ وقتها أن الغياب رسالةٌ صامتة لا تحتاج حروفًا،
وأن الانتظار نوعٌ راقٍ من التعذيب نمارسه طوعًا،
لأننا نخاف النهاية أكثر من الصمت نفسه.
ورغم ذلك… ما زلت أفتح نافذة الهاتف أحيانًا،
أراجع آخر ظهور لك، كأنني أتحقق من نبضٍ بعيدٍ في قلبي.
الرسالة السادسة: ما بين الدعاء والحنين
ليالي كثيرة دعوتُ لك فيها دون أن تدرى،
كنتُ أرفع يديّ وقلبي معًا،
أطلب لك الطمأنينة في مكانك،
وأطلب لي النسيان في مكاني.
لكن يبدو أن الله لم يشأ أن يُنسيني،
ربما لأن الدعاء الذي يحمل اسمك لا يرضى أن يُمحى.
أنا لا أفتقدك فقط،
بل أفتقد نفسي التي كانت تبتهج بك،
التي كانت تجد في حديثك معنى للحياة،
وفي غيابك درسًا في الصبر.
️ الرسالة السابعة: عتاب لا يُقال
لو كان العتاب يُعيد ما ضاع،
لكتبت لك ألف رسالة ودمعتين.
لكنني أعرفك… ستقرأ ولا تشعر،
ستُكمل يومك كأنني لم أكن سوى صدًى بعيد.
كنتَ تقول إنك تفهم صمتي،
فلماذا إذًا لم تفهمه حين امتلأ وجعًا؟
كنت أحتاجك يومًا واحدًا فقط،
لكن غرورك كان أعلى من ندائي.
لا أعاتبك اليوم،
بل أعاتب نفسي لأني أحببتك بصبرٍ لم تستحقه.
️ الرسالة الثامنة: صوتك في ذاكرتي
أحيانًا أسمع صوتك بين ضجيج الحياة،
فألتفت بخفة، كأنك تناديني حقًا.
لكن لا أحد…
فقط صدى الذكرى يمرّ بي كنسمةٍ تُحرك رمادًا قديمًا.
صوتك لم يغادر أذني،
كأنّه وعدٌ مؤجل لم يُكمل حديثه.
أشتاق لتلك النغمة التي كانت تُصلح مزاجي في لحظة،
وتجعلني أصدق أن العالم بخير.
اليوم كل شيء صامت،
حتى الأغاني صارت ثقيلة،
لأنها تذكّرني بك أكثر مما تُسلّيني عنك.
الرسالة التاسعة: أنا بخير…
أكتب لأقنع نفسي أنني بخير،
أنني تجاوزتُك كما يتجاوز المسافر مدينةً أحبها،
لكنه يظلّ يلتفت للخلف عند كل منعطف.
صرتُ أضحك كثيرًا أمام الناس،
لكن داخلي يجلس على أطلال الحنين صامتًا.
تعلم؟
النسيان لا يحدث فجأة،
هو عادةٌ جديدة نتعلمها بصعوبة،
كما يتعلم الجرح أن يتوقف عن النزف دون أن يلتئم.
ليست كل رسالة تحتاج بريدًا لتصل،
بعضها يكفي أن تُكتب لتُشفى بها الأرواح.
كتبتُ هذه الرسائل لا لأعاتب أحدًا،
بل لأُريح ذلك الجزء منّي الذي ظلّ يتحدث بصمت لسنوات.
كنتُ أكتب لأجل من مرّ في حياتي ثم غاب،
لأجل ملامحٍ لم تبرح ذاكرتي،
ولأجل تلك المواقف التي تُعيد نفسها في رأسي كلّما ظننت أنني تجاوزتها.
الكتابة لم تكن خيارًا،
بل نجاة.
الرسالة العاشرة: أكتب لأجلك… حتى النهاية
أكتب لأجلك لأنك الصفحة التي لا تُطوى،
والحرف الذي يسكن قلبي رغم الغياب.
أكتب لأجلك لأن الحبر حين يلمسك يصير دفئًا،
ولأن الكتابة هي الطريقة الوحيدة لأراك دون أن أراك.
ربما لن تقرأ هذه الرسائل أبدًا،
لكنها تعرف طريقها إليك،
تسافر مع الريح، مع نبض الليل،
وتستقر هناك… في مساحةٍ صغيرةٍ من قلبك
تذكرني دون أن تدري.
سلامٌ على الحرف بعد النهاية
ها أنا أكتب آخر رسالة.
هذه المرة، لا يوجد حنين،
بل امتنان، وهدوء، وشيء من النور.
أكتب لأنني أدركتُ أن كل ما مضى
كان طريقًا لا بدّ منه للوصول إلى ذاتي.
الحبر لم يعد وجعًا،
والقلب لم يعد مسرحًا للغائبين،
بل بيتًا صغيرًا يسكنه السلام.
سلامٌ على ما كُتب،
وسلامٌ على ما لم يُكتب،
- وسلامٌ على كلّ من أحببناهم دون ندم.




