مدينة الضباب

للكاتبة صباح البغدادي

المشهد الاول الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل،

كانت باريس تغفو على ضوءٍ رماديٍّ خافتٍ يتسلل من بين الغيوم. المدينة المليئة بالحياة لم تعرف الهدوء يومًا، لكنها الليلة تكتظ بالأقنعة والوجوه الغريبة. ألوانٌ زاهية، أصواتٌ مرتفعة، موسيقى صاخبة تهزّ الأرض تحت الأقدام… كان احتفال الهالوين في ذروته.

الناس يضحكون، يرقصون، يتنكرون في هيئة مهرجين ووحوشٍ، غير مدركين أنّ بين الحشود من لا يتنكر، بل هو الوحش ذاته.

من بين الظلال، تسلّل “دان” بخطواتٍ خفيفةٍ، عيناه تبرقان ببريقٍ رماديٍّ مرعب، وأنفاسه متقطعة كأنما يحبس أنينًا داخله. كان أحد المستذئبين الذين اعتادوا صيد فرائسهم في مثل هذه الليالي، لكنه بدا متردّدًا… كأن شيئًا داخله يقاوم ما كُتِب عليه.

 المشهد الثاني: الضحية والاختيار

بين الطرقات المظلمة، لمح فتاةً وحيدة تحمل حقيبة صغيرة وتسير بخطى متوترة. كانت تلك كيان، طبيبة جراحة أنهت مناوبتها لتوها في أحد المستشفيات القريبة.

اقترب منها دان، صوته يهمس من العتمة، ونظرته تشتعل جوعًا لا يُقاوَم. همَّ بالانقضاض عليها، لكن شيئًا غير متوقع حدث…

مدّت الفتاة يدها نحوه وقدّمت له قطعة لحمٍ نيئة من حقيبتها الصغيرة.

تجمّد في مكانه، يحدّق فيها بدهشة وارتباك.

قال بصوتٍ مبحوح:

ماذا تفعلين؟ هل تظنّينني حيوانًا؟ نعم… أنا مفترس، لكنني لست حيوانًا.”

خفض رأسه بحزنٍ وألمٍ:

يا ليت أحدهم يعيدني كما كنت قبل أن يلتهمني أحد الذئاب.”

تراجعت كيان بخطواتٍ خائفة، وهمست:

أرجوك… لا تؤذني.”

رفع نظره إليها، وعيناه تمتلئن بالحيرة والاضطراب.

الليل جاء… وهذا موعد طعامي، لكن… لا أدري لماذا لا أستطيع المساس بك.”

قالت بصوتٍ مرتجف:

أشعر أن لديك قلبًا، نعم… قلبك ما زال ينبض.”

توقف لوهلة، وضع يده على صدره بدهشة.

حقًا؟ هذه أول مرة أشعر بها بنبضٍ منذ سنوات…”

ثم صرخ متألمًا:

ابتعدي! قبل أن أفقد السيطرة! اذهبي قبل أن يتحكم بي الوحش!”

لكنها لم تتحرك. بقيت تنظر إليه بثباتٍ عجيبٍ.

حينها، أخرجت من حقيبتها حقنةً مخدّرة وغرستها في عنقه بسرعةٍ مذهلة.

سقط على الأرض فاقدًا وعيه، وصوت الريح يعصف حولهما كأن الليل نفسه يصفّق لجرأتها.

المشهد الثالث: ما بين الوعي والظلام

مرت ساعاتٌ طويلة. أفاق دان على ألمٍ شديدٍ في رأسه، يشعر كأن جمجمته تنفجر. فتح عينيه بصعوبة فرأى وجه كيان أمامه.

ماذا فعلتِ بي؟! وأين أنا؟!”

أجابته بهدوءٍ وثقة:

أنا الدكتورة كيان، وقد أنقذتك. علمت أنك مصاب بلعنةٍ غريبةٍ… قررت أن أساعدك حتى تتعافى.”

لا تنتظري مني شكرًا، لأنني سأعود لما كنت عليه بعد أن ينسحب مفعول الحقنة من جسدي.”

ابتسمت بهدوء:

لن أتركك حتى تشفى. سأرافقك إلى مشفاي الخاص، وهناك سنبدأ رحلة العلاج.”

تنهّد، ثم قال.

هذا أشبه بحلم…”

ردّت بابتسامةٍ خفيفة:

إذن دعني أحقّق لك الحلم. ما اسمك؟”

دان…”

تشرفنا يا دان، هل ستثق بي؟”

نظر إليها طويلاً، بين الرفض والقبول، ثم أغلق عينيه وقال:

نعم، سأثق بك.”

ابتسمت وقالت بثقةٍ:

إذًا فلنبدأ الآن.”

 المشهد الرابع: غريزة الليل

في المشفى، كان دان يمرّ بتقلّباتٍ حادّةٍ كلما حلّ الليل. نبضات قلبه تتسارع، أنفاسه تتقلّص، وصوت أنينه يملأ الجناح.

كانت كيان تدخل عليه مسرعةً في كل مرة، تُمسك بيده، وتغرس الإبرة المخدّرة في عنقه، تهدّئه بصوتٍ حنونٍ حتى يغفو.

مرّت الأيام، وبدأت نوبات التحول تقلّ، واستجاب جسده للعلاج تدريجيًا.

وفي آخر يومٍ له بالمشفى، دخل على كيان بابتسامةٍ هادئة:

جئتُ لأشكرك على كل ما فعلتِه لأجلي.”

رفعت رأسها وقالت بابتسامةٍ ناعمة:

أهلًا دان، هل تحتاج شيئًا؟”

لكن فجأة، انقضّ عليها وعضّ عنقها بعنفٍ مميت!

صرخت، والدم يسيل على ثيابها البيضاء.

سقطت على الأرض، ووقف دان مذهولًا، أنفاسه تتقطع وهو يهمس:

لا… لا أصدق… لم أقصد! لماذا؟!”

 المشهد الخامس: بين الموت والحب

سمع صوتها يهمس رغم الألم:

كنتُ فقط أريد مساعدتك… أهذا جزائي؟”

تراجع مذعورًا:

أقسم لك… لم يكن ما أردتُه! انتظري، سأصلح ما حدث!”

بحث بجنونٍ بين الأدراج حتى وجد المصل الطبيّ، وغرزه في عنقها المرتجف.

انتظر لثوانٍ طويلة كأنها دهور، حتى تنفّست ببطءٍ من جديد.

فتح عينيه بذهولٍ وهمس:

كيان؟ هل أنتِ بخير؟”

ابتسمت بضعفٍ وقالت:

لا تقلق… أنا بخير. لكن عليك أنت أن تُكمل العلاج، أن تتعافى كليًا.”

سأفعل، فقط من أجلك.”

ولِمَ؟”

لأنني لا أملك أحدًا في العالم… سواك.”

نظرت إليه، والضوء الأخضر المنبعث من عينيه بدأ يخفت.

إذن لتكن هذه البداية، دان… البداية الجديدة.”

 المشهد السادس: ما بعد اللعنة

مرّت الشهور، وتعافى دان تدريجيًا، لم يعد ذئبًا كاملًا ولا إنسانًا ناقصًا… بل شيئًا بينهما، نصفه قلب، ونصفه ظلال.

وفي أحد الأيام، وقف أمام كيان وقال:

كيان، لدي طلبٌ واحد…”

ما هو يا دان؟”

عشاءٌ بسيط في أحد مطاعم باريس.”

ابتسمت وقالت:

أوافق.”

وفي نهاية العشاء، وقف أمامها، أمسك بيديها وقال بصوتٍ عميقٍ يرتجف بالعاطفة:

كيان، هل تقبلين الزواج بي؟”

دمعت عيناها، وقالت:

أقبل، يا من أنقذني الحب من أنياب الوحش.”

تم الزواج في قاعةٍ مضيئةٍ تطل على نهر السين، موسيقى هادئة، وضوء شموعٍ يراقص الهواء.

كانت تلك لحظةً تشبه المعجزة…

كنتُ أظن أنني فقدتُ كل إحساسٍ بالحياة، وأن قلبي لم يعد يدق إلا نذيرًا للجوع والدماء… حتى ظهرتِ أنتِ، يا كيان، وسط ظلامي، كضوءٍ غريبٍ لا أقدر على مقاومته. كل مرة كنتِ تضعين يدك على صدري، كان داخلي شيء ما يُقاتل الوحش، شيء يشبه الإنسان الذي كنتُه يومًا.

لم أعد أعلم إن كنتِ أنقذتِني بالعلاج أم بالحب، لكنني أعلم أنني، حين نظرتُ في عينيك، لم أرَ الخوف كما رأيتُه في عيون الجميع… رأيتُ وطنًا.

والآن، بعد أن انتهت اللعنة، لا أريد العودة إلى العالم… أريد فقط البقاء في عالمك أنتِ، حيث القلب لا يفترس، بل يُحب حتى آخر نبضة.”

الوحش تخلّى عن ظله لأجل من رأت فيه إنسانًا.

تابعوا باقي القصص من هنا

للمزيد من القصص والمقالات المميزة ✨
تابعونا على
عوالم من الخيال



تابعونا على فيسبوك

Visited 32 times, 1 visit(s) today

5 تعليقات

  1. مفيش اجمل من الحب لما يكون مبني ع الحنية والاحتواء والتضحية ❤️
    متألقة دائما❤️❤️

    • الحب والاحتواء والتضحية بكونوا بس ف الروايات انما ع ارض الواقع مفيش
      تسلم يا رب❤♥ ♡

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *