لأجلك يا مدينة الصلاة(قصة قصيرة 2)


لأجلك يا مدينة الصلاة

بقلم صباح البغدادي

 

 

“صرخة الغضب” ليست مجرد حكاية عن حربٍ تُروى، بل عن روحٍ لا تُكسر، وأمٍّ ما زالت تنتظر طفلها عند بابٍ تهدّم ولم يُغلق. هي صرخةٌ من قلب القدس، من حجارتها التي ما زالت تحفظ أسماء الشهداء وتردّد أنفاسهم في الريح.

المشهد الأول: لهيب التحدي

 

صرختُ في وجهه بصوتٍ يهزّ صمت السماء:

كيف أغضّ بصري وأنت أمامي تنهش الأرض بأنيابك يا لعين؟

لن أخشى الموت، بل عليك أنت أن تخشاني، لأنني أحيا رغم اللاحياة.

من أعطاك حقّ ملكيتنا؟ من سوّل لك أنّك وريث هذه الأرض؟

أنت دخيل… غريبٌ في أرضٍ تعرف أصحابها جيدًا.

أنظر حولك، واسأل التراب لمن ينتمي، ستجيبك الحجارة قبل البشر.

 

اقتربتُ أكثر، والدم يغلي في عروقي كبركانٍ ينتظر الانفجار.

قلتُ: نحن أقوياء، لا تنخدع بصمتنا، فالصمت ليس خوفًا، بل حشدٌ للعاصفة.

أزل الغبار عن عينيك أيها الأحمق، لقد سئمنا من عماك، ومن ظلمك الأعمى.

حربٌ مجنونةٌ طحنت أرواح الأبرياء لأعوامٍ طويلة،

حربٌ لا منطق فيها، سلبت أرضًا، واغتصبت حقًّا، وسرقت طفولةً ما زالت تبحث عن أرجوحتها.

 

 

المشهد الثاني: ابتسامة بين الرماد

 

قالت الأم، وهي تجمع ما تبقى من خبزٍ ودفءٍ لطفلها الوحيد:

أين كنت يا ولدي؟ لقد غبت كثيرًا عن عيني.

 

رفع الصغير رأسه بفخرٍ بريء وقال:

كنت أشعل النار في علمهم يا أمي، لكن انظري… حذائي اتّسخ!

 

ارتسمت على وجهها ابتسامةٌ حزينة تشبه الدموع،

مسحت على شعره وقالت:

يا بنيّ، حذاؤك أطهر منهم، أتدري؟ هم الذين لوّثوا الأرض، لا التراب الذي تحت قدميك.

 

ضحك الطفل بخفةٍ وقال:

وأين طعامي يا أمي؟ لقد جعت.

 

لكن صوته لم يكتمل…

اهتزّ المكان، وارتجّت الجدران، وسقط الضوء من السماء على شكل نارٍ لا ترحم.

قُذيفة جديدة سقطت فوق أحلامهم.

 

صمتت الأم، وتوقّف الزمن.

بحثت عن صغيرها وسط الغبار، نادته بصوتٍ مبحوح:

يا ولدي… أجبني، أرجوك.

 

لم يردّ.

كان الطفل قد رحل إلى الله،

بينما ما زال رغيفه على الطاولة ينتظر أن تلمسه يداه الصغيرتان.

 

 

المشهد الثالث: حين صار الخبر هو الدم

 

في المساء، أذاع المذيع بصوتٍ مرتجف:

استشهد الزميل #صالح_الجعفراوي أثناء تغطيته للقصف.

 

لكنّ أحدهم تمتم من خلف الشاشة:

بل لم يمت، هو الآن الخبر نفسه…

هو الحدث الذي كان يروي لنا الأحداث.

 

سقط الميكروفون على الأرض، وانكسر صوته في الأثير،

وصدى أنينه صار نشيدًا جديدًا من نشيد الصمود.

 

 

المشهد الرابع: نداء السماء

 

من بين الركام، رفعت امرأةٌ يديها إلى السماء وقالت:

يا ربّ، أما آن لهذه المدينة أن ترتاح؟

لقد تعبنا من دفن الأحلام، ومن عدّ الشهداء.

لكنّها ما لبثت أن نظرت إلى الأفق، ورأت علمًا صغيرًا مرفوعًا بين الحجارة.

ابتسمت، وقالت بصوتٍ خافت:

ما دام هناك علم، فهناك حياة…

وما دام هناك طفلٌ اسمه فلسطين، فلن تموت القدس أبدًا.

المشهد الخامس: القيامة من تحت الركام

 

كان الليل قد أثقل صدر المدينة، والسماء ملبدةٌ بدخانٍ رماديٍّ يشبه الحزن.

غير أنّ شيئًا غريبًا كان يتحرّك بين الأنقاض…

طفلةٌ صغيرة تحمل بيديها شمعةً، تضيء بها الطريق المظلم، تتقدّم بخطى مترددة نحو جدارٍ كتب عليه بخطٍ مرتجف:

“هنا كنا، وهنا سنبقى.”

 

تقدّم رجلٌ مسنّ، وجهه محفور بالتجاعيد كخريطةٍ قديمةٍ لفلسطين، وقال لها بصوتٍ متهدّج:

يا ابنتي، لماذا تحملين الشمعة وحدك؟

أجابت بعينين تشبهان السماء بعد المطر:

لأنهم أطفؤوا النور يا جدي… وأنا لا أريد للقدس أن تنام في الظلام.

 

اقتربت الأم الثكلى من بعيد، تحمل في يدها صورة طفلها، وقالت:

يا صغيرتي، أشعلي شمعتك، فالنور لا يُقتل حتى لو سقطت عليه السماء.

 

ثم رفع الرجال والنساء ما تبقّى من أعلامٍ ودموعٍ وقلوبٍ مثقلةٍ بالحلم،

وصار المشهد أشبه بقيامةٍ جماعيةٍ من تحت الركام،

الكلّ يهتف بصوتٍ واحدٍ يعلو على صوت الدمار:

القدس لنا… القدس لنا…

 

وفي لحظةٍ خارقةٍ للصمت، هبّت نسمةٌ باردة، كأنها أنفاس الشهداء،

لامست الوجوه وأطفأت الدموع،

ورُفعت الأعين نحو السماء حيث سطع الهلال بجانب قبة الصخرة،

فهمس أحدهم:

ها قد عادت أرواحهم تضيء المدينة من جديد.

 

وفي الأفق، ارتسمت جملةٌ بخيوط الضوء:

“لن تموت مدينةٌ صلّى فيها الأنبياء، وسُقيت أرضها بدماء الأبرياء.

المشهد السادس: حين ولدت الشمس من الرماد

 

بدأ الفجر يزحف بخطواتٍ خجولة فوق أنقاض المدينة،

السماء كانت رمادية لكن خيوط الضوء تتسلل بخفةٍ كأنها تُفتّش عن قلبٍ ما زال ينبض بالحياة.

تجمّع الناس عند الساحة التي صارت أطلالًا، كلٌّ منهم يحمل شيئًا من الماضي؛

امرأة تحمل مفتاح بيتها القديم،

ورجل يحمل علمًا ممزقًا،

وطفل يحمل حجراً كتب عليه “هنا حلمتُ أن أعيش.”

 

وقف شيخٌ في منتصف الدمار، رفع الأذان بصوتٍ مبحوحٍ ولكنه ثابت،

فتحوّل صوته إلى نغمةٍ تهزّ القلوب،

النساء بكين، والرجال سجدوا على التراب،

حتى الطيور التي هاجرت عادت تُحلّق فوقهم كأنها تشهد النهوض.

 

حين انتهى الأذان، ساد صمتٌ عجيب…

ثم دوّى صوت طفلٍ من بين الركام يصرخ: الله أكبر!

ارتجّ المكان، وبكى الجميع كأنّ السماء فتحت صدرها للضوء.

 

وفي تلك اللحظة، خرجت الشمس من بين الدخان،

تُضيء القبة الذهبية التي لم تخفت يومًا،

فتحوّل الحزن إلى وعدٍ جديدٍ بالحياة.

 

وهناك، وسط الدموع والدم،

وُلدت القدس من جديد،

كأنها تقول للعالم:

أنا الحياة التي لا تُهزم… ولن تُمحى أبدًا. ️

 

 

مشهد الأخير لأجلك يا مدينة الصلاة

 

يا قُدسُ، يا سِرَّ السماءِ على الثرى

يا قِبلةَ الأرواحِ والنورِ الأَغَرّا

 

نبضُكِ فينا لا يُقاسُ بعُمرنا

بل خُلدٌ يجري في العروقِ إذا جَرَى

 

كم خنجرٍ غرسوا، وكم جرحٍ بكى

لكنَّ وجهَكِ لم يزلْ بدرًا يُرى

 

يا زهرةً نبتتْ على وجعِ الدُّنا

لم تُنحني، بل أورقتْ حُبًّا وَقُرّى

 

سنظلُّ نكتبُ من دمانا قصَّةً

أنَّا هنا… ما غابَ عنّا المَجرى

 

وسيبقى طفلُكِ في المدى مناديًا

قدساهُ… قدساهُ… ما حَيَّ الورى.

للمزيد من القصص والمقالات المميزة ✨
تابعونا على
عوالم من الخيال



تابعونا على فيسبوك

Visited 1 times, 1 visit(s) today

6 تعليقات

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *