ضحكة على رماد الحب(قصة قصيرة 2)

ضحكة على رماد الحب

ضحكة على رماد الحب

بين الحب والضحك على رماد الحب

 

 

بقلم: صباح البغدادي

 

المشهد الأول: ومضة على الشاشة

 

كنتُ أُتابع عملي كعادتي، أتنقّل بين تطبيقات التواصل أراجع الرسائل وأرتّب الطلبات، حين ظهرت أمامي دائرة صغيرة أعلى الشاشة تُخبرني أن هناك “استوري” جديدة.

في العادة، لا يُثير الأمر اهتمامي، لكن الاسم الذي لمع أمامي جعل أصابعي تتجمّد في منتصف الحركة.

 

كان هو.

ذاك الذي أحببته يومًا بكل صدق، وبكيت لأجله بقدر ما ضحكت معه.

ارتبك قلبي للحظة، كأن نبضه عاد إلى فوضاه القديمة.

ضغطت على الاستوري، وبدأت الصور تمرّ أمامي ببطءٍ غريب، وكأن الزمن انكسر من حولي.

 

ضحكته، ملامحه، حتى طريقته في كتابة التعليق أسفل الصورة… كل شيء فيه كما هو، كأن الأيام لم تمرّ، وكأنني ما زلتُ هناك، في أول نظرة وأول وعد.

 

همستُ في سري بابتسامةٍ تحمل مرارةً وسخريةً في آنٍ واحد:

 

ما زلتَ قادرًا على إرباك يومي… رغم كل هذا الغياب.”

 

 

 

المشهد الثاني: صوت يُعيد التوازن

 

قبل أن أغرق في بحر الذكريات، انبعث من الهاتف صوت رسالة قصيرة، صوتٌ يحمل من البهجة ما يكفي لإنعاش روحي.

كانت تارا… صديقتي المغربية المجنونة التي تتقن اللهجة المصرية أكثر من بنات القاهرة.

 

قالت وهي تضحك:

 

بخ! بتعملي إيه يا نادين؟!”

 

 

 

ابتسمت رغم ثقل قلبي، فصوتها وحده كفيل بأن يعيد لي اتزاني.

قلت بخفةٍ متصنّعة:

 

ولا حاجة يا تارا، كنت براجع شغل بسيط كده.”

 

 

 

ردّت بمرحها المعتاد:

 

شغل إيه يا بنتي! شكلك كنتِ سارحة… عيونك بتفضحك حتى من بعيد!”

 

 

 

ضحكت قائلة:

 

هو انتي شايفاني ازاي يا تارا؟ ولا عندك رادار للمشاعر؟”

 

 

 

قالت بخبثٍ رقيق:

 

لا بس عارفاكي، اللي بيشوف استوري الحب… وشه بيتبدّل كده، حتى لو حاول يخفي.”

 

 

 

صمتُّ لحظةً، كمن يحاول الهروب من صدق الكلام، ثم قلت بصوتٍ خافتٍ يحمل تنهيدةً ثقيلة:

 

يمكن عندك حق… الاستوري دي وجعتني أكتر مما توقّعت.”

 

 

 

المشهد الثالث: اعتراف بين السطور

 

سكتت تارا قليلًا، ثم قالت بصوتٍ دافئٍ يشبه حضنًا من بعيد:

 

نادين، اللي كان حب حقيقي مش بيختفي… بس مش دايمًا بيرجع.

يمكن ربنا شاله عشان يديكي راحة تانية… يمكن أنا الراحة دي!”

 

 

 

ضحكتُ وسط الدموع، ضحكة امتزجت فيها المرارة بالعِشرة:

 

تارا، وجودك علاج… انتي دايمًا بتيجي في الوقت الصح.”

 

 

 

قالت مازحة لتكسر اللحظة:

 

يبقى قومي حضّري القهوة وتعالي نرغي، أنا محتاجة أسمع ضحكتك.”

 

 

 

ابتسمتُ، فكم من مرة أنقذتني القهوة والحديث معها من الغرق في ظلي.

 

 

 

المشهد الرابع: إغلاق الاستوري وفتح القلب

 

نظرتُ مجددًا إلى الاستوري.

ابتسمتُ بفتورٍ، ثم أغلقتها كمن يطوي صفحةً لم تعد تخصّه.

وضعت الهاتف جانبًا، وتمتمت لنفسي:

 

الحب القديم علّمني الوجع… بس الصداقة رجّعت لي السلام.”

 

 

 

أرسلت لتارا رسالة قصيرة:

 

جهّزي القهوة يا مجنونة، عندي كلام كتير محتاج يتقال.”

 

 

 

ابتسمتُ، لأنّي أدركت أن بعض الاستوريات لا تُوجعنا لتُعيد الماضي، بل لتذكّرنا أننا تجاوزناه فعلًا.

 

 

المشهد الخامس: فضول تارا

 

جلست تارا أمام مكتبها، تحاول إنهاء عملها، لكن عقلها ظلّ مشغولًا بصديقتها.

شيء في استوري ذلك الرجل ظلّ يُقلقها، ففتحتها من جديد، مدفوعةً بفضولٍ ممزوجٍ بالغيرة على نادين.

 

كانت الصورة بسيطة، لكن الجملة تحتها اخترقت القلب:

 

لما المايه تتحوّل للبارد… يبقى حدّ بيستخدمها معاك.”

 

 

 

تجمّدت للحظة، ثم شهقت بخفوتٍ حين فهمت المقصود.

كلماته كانت مليئة بالتلميح، جارحة، قاسية… تحمل وجعًا متعمدًا.

 

أغلقت تارا الهاتف ببطء، وشعرت بوخزةٍ في صدرها.

 

نادين مش بخير”، تمتمت لنفسها، وهي تلتقط أنفاسها بتوترٍ حزين.

 

 

المشهد السادس: اللقاء المتوتر

 

بعد دقائق، قررت نادين أن تذهب إليها.

طرقت الباب بخفة، لكن قلبها كان يطرق بعنف.

فتحت تارا الباب بوجهٍ متعبٍ يخفي خلفه قلقًا لا يُقال.

 

جلستا بصمتٍ مشحون، حتى قالت نادين بهدوءٍ حازم:

 

من غير مقدمات يا تارا، قولي اللي في بالك.”

 

 

 

أطرقت تارا رأسها ثم قالت بصوتٍ يشبه الوجع:

 

انتِ حسيتي بإيه لما شفتي الاستوري دي؟ الجملة دي مش سهلة.”

 

 

 

ضحكت نادين ضحكة قصيرة تحاول أن تتستر بها على الغصّة:

 

جاوبتني نفسي يا تارا، مجرد كلمة… بس فكّرتني ليه كنت لازم أضحك.”

 

 

 

ثم أضافت بخفةٍ ساخرة:

 

هو بيشبهني بالمايه، وأنا لما المايه بتبرد فجأة وأنا باخد شاور، بفكر أصرخ، بس بضحك… أصل السخان خلص ميته السخنة! طبيعي المايه تبقى باردة.”

 

 

 

انفجرت تارا ضاحكة، ضحكة ممزوجة بالألم، تبعتها نادين بضحكة تشبه البكاء بعد الغرق.

ضحك مرّ، لكنه ضروري… كتنفّسٍ بعد انقطاع طويل.

 

 

المشهد السابع: فلسفة الحب والوجع

 

قالت تارا بعد أن هدأت قليلًا:

 

طب وليه تفتحي الاستوري أصلاً؟ ليه تأذي نفسك؟”

 

 

 

نادين نظرت إلى البعيد وقالت بهدوءٍ ناضج:

 

كنت بس عايزة أشوف مدى تفكيره… أصل الخصام هو اللي بيكشف المعدن.

الحب مش ضحك وبس، الحب الحقيقي بيبان وقت الزعل، وقت ما بتبقى الكلمة وجع مش مزاح.”

 

 

سكتت لحظة ثم تابعت:

 

هو فاكر إني بكلم حد تاني، ومش عارف إن حياتي كلها شغل وسفر.

زمان كنت بدافع عن نفسي، بس بعدين فهمت… لما البنت تضطر تبرر كل تصرف لحبيبها، دي مش بتعيش حب، دي بتعيش وجع.”

 

 

 

نظرت إلى فنجان القهوة الذي برد منذ دقائق وقالت بابتسامةٍ حزينة:

 

كنت مريضة بيه… واتعافيت.”

 

 

 

المشهد الثامن: ختام المواجهة

 

تارا اقتربت منها وربّتت على يدها بحنان:

 

هو اللي خسرك يا نادين، مش العكس.

اللي يشوف المايه الباردة دليل خيانة… عمره ما كان يستحق نقاء اللي كانت بترويه.”

 

 

 

ابتسمت نادين بمرارةٍ جميلة وقالت:

 

يمكن… بس اتعلمت إن النقاء مش لازم يفضل دايمًا للناس الغلط.”

 

 

قالت تارا مبتسمة:

 

تعالي نخرج نغير جو، الدنيا مش مستاهلة استوريات تعب.”

 

 

 

ضحكت نادين وقالت:

 

بس المايه المرة دي تكون سخنة، ما تسخنيش السخان ع الفاضي يا بنت المجنونة!”

 

 

 

ضحكتا سويًا، ضحكة صافية كالشمس بعد مطرٍ طويل.

ضحكة أنهت وجعًا قديمًا، وبدأت بعدها صداقة جديدة…

أكثر صدقًا، وأقل وجعًا.

 

المشهد التاسع: رسالة إلى النفس

 

كانت نادين بعد ساعاتٍ طويلة قد عادت إلى غرفتها، جلست أمام النافذة تتأمل الأضواء المتناثرة في المدينة، وكل ضوءٍ بدا لها كأنه ذكرى تُحاول أن تُضيء ما انطفأ في قلبها.

وضعت كوب القهوة الساخن بين يديها، أطلقت زفرةً طويلة وقالت بصوتٍ بالكاد يُسمع:

 

يمكن خلاص… وجعت كفاية.”

 

 

 

فتحت دفترها القديم الذي خبّأت فيه ذات يوم رسائلها له، لكن هذه المرة لم تكن الرسالة له، بل لنفسها.

كتبت بخطٍّ مرتجف، يشبه نبضًا يتعلّم المشي من جديد:

 

نادين،

ما تعيشيش على رماد الذكريات.

اللي انتهى كان لازم ينتهي، عشان يعلّمك إن الحب مش بس حضور، ده احترام، ده راحة قلب.

واللي خذلك، ما يستهّلش حتى وجعك اللي بيكويه الليل.”

 

 

 

توقفت لحظة، رفعت رأسها ونظرت لانعكاسها في زجاج النافذة، ثم تابعت الكتابة بخفةٍ أكثر دفئًا:

 

انتي قوية يا نادين، يمكن وجعك خلاكي أهدى، خلاكي تعرفي قيمة نفسك بعد ما كنتي بتديها ببساطة.

اتعلمي تضحكي حتى لو العالم كله كئيب، اتعلمي تحبي من غير ما تنسي نفسك، وافتكري دايمًا…

اللي بيطفّي ضوءه عشان ينور لغيره، لازم يفتكر يولع شمعته من جديد.”

 

 

 

أغلقت الدفتر بهدوءٍ، كأنها ختمت فصلاً كان لابد أن يُغلق.

رفعت كوب القهوة وشربت آخر رشفة، ثم تمتمت بابتسامةٍ دافئةٍ صادقة:

 

ضحكتي رجعت… على رماد الحب، بس المرة دي من قلبي.”

 

 

 

وبينما وضعت رأسها على الوسادة، تسللت نسمةٌ ليلية خفيفة لتمرّ بين خصلات شعرها،

كأنها تُخبرها أن الحياة لم تنتهِ، بل بدأت الآن… أكثر صفاءً، وأكثر صدقًا.

 

المشهد العاشر: بداية جديدة على رماد قديم

 

مرّت أسابيع، وربما شهور، منذ تلك الليلة التي أغلقت فيها نادين دفترها وكتبت لنفسها رسالة الخلاص.

كانت الحياة قد عادت تسير بإيقاعٍ هادئ، يشبه نبضها الجديد.

العمل ما زال كثيرًا، والأيام متعبة، لكنها لم تعد تشتكي…

فقد صار التعب بالنسبة لها علامة حياة، لا وجعًا.

 

في أحد المقاهي الصغيرة القريبة من مكتبها، جلست نادين تُراجع ملاحظاتها على مشروعٍ جديد.

كان المطر يطرق الزجاج بخفة، وصوت الموسيقى في الخلفية يملأ المكان بطمأنينةٍ لا تُشبه سوى السلام الداخلي بعد حرب طويلة.

 

لمحت على الطاولة المجاورة شابة تمسك بهاتفها وتنظر إلى “استوري” بعينين حزينتين.

ابتسمت نادين ابتسامةً عارفة، تشبه من مرّ من نفس الطريق، ثم أخرجت ورقة صغيرة من مفكرتها، وكتبت عليها بخطٍ ثابتٍ وواثق:

 

أحيانًا نضحك على رماد الحب،

مش لأننا نسينا،

لكن لأننا اتعلّمنا نحبّ نفسنا بعد ما اتحرقنا من غيرنا.”

 

 

 

وضعت الورقة بجانب الفتاة وغادرت بصمتٍ جميل، تاركة خلفها أثرًا من الدفء لا يُرى، لكنه يُحسّ.

 

خرجت من المقهى تمشي تحت المطر بخطواتٍ واثقة،

رفعت رأسها نحو السماء، وابتسمت.

الابتسامة كانت مختلفة هذه المرة…

ضحكة خفيفة صدرت منها، ضحكة ناعمة تشبه الولادة بعد الألم.

ضحكة على رماد الحب

لم تكن نهاية، بل كانت ولادة جديدة لامرأةٍ عرفت أن النقاء لا يُطفئه وجع…

بل يُزهر بعده.

للمزيد من القصص والمقالات المميزة ✨
تابعونا على
عوالم من الخيال



تابعونا على فيسبوك

Visited 2 times, 1 visit(s) today

4 تعليقات

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *