الفصل الثاني

الهدوء الذي يسبق العاصفة…..

 

كلمات الملك كيوان تلاشت مع صمت الليل، لكنها تركت في أذني شاهين صدى غريبًا، وكأنها لم تكن مجرد ملاحظة عابرة، بل نبوءة منتظرة. ظل شاهين واقفًا في مكانه للحظات، يراقب الملك الذي لم يتحرك من مكانه أمام النافذة، وكأن السماء المظلمة تخبره بأشياء لا يستطيع أحد غيره سماعها.

 

تنحنح شاهين بحذر، محاولًا كسر الصمت: “مولاي، هل ترغب أن أرسل من يراقب العمة أمينة؟ ربما مجرد شائعات…”

 

لم يرد كيوان فورًا، بل أدار رأسه ببطء نحو حارسه، وعيناه المظللتان بنور القمر تحملان غموضًا عميقًا. “لا داعي… هي أذكى من أن تُراقب، وإن كانت تخفي شيئًا، فلن يكتشفه أحد إلا عندما تريد هي ذلك.”

 

ثم، بابتسامة بالكاد وُجدت على شفتيه، أضاف: “لكن أخبرني، ما رأيك أنت؟”

 

شاهين تجمد للحظة. لم يكن من عادة الملك أن يطلب رأيه، بل لم يكن أحد يجرؤ على مشاركة آرائه مع كيوان إلا إذا سُئل مباشرة. فكر سريعًا في كلمات لا تجلب عليه المتاعب، ثم قال بحذر: “أعتقد… أن العمة أمينة دائمًا ما كانت غامضة، لكن إن كان هناك تغيير في تصرفاتها، فهذا يعني أنها تحضر لشيء ما.”

 

هز كيوان رأسه ببطء، وكأن الإجابة لم تفاجئه. عاد للجلوس خلف الطاولة، يمرر أصابعه فوق الخريطة وكأنه يدرسها من جديد. “إذن، لننتظر… فالعمة أمينة لا تتحرك عبثًا.”

 

ثم، دون أن ينظر إلى شاهين، أشار بيده في إيماءة واضحة بأنه يستطيع الانصراف.

 

انحنى شاهين باحترام، ثم استدار ليغادر، لكنه شعر بشيء غريب في الغرفة. شيء غير مرئي، لكنه يثقل الهواء من حوله. تردد للحظة عند الباب، لكن عقله حذره من الوقوف أكثر من اللازم.

 

بمجرد أن خرج، وأغلق الباب خلفه، زفر نفسًا لم يدرك أنه كان يحبسه.

 

“العمة أمينة تتحرك، والملك ينتظر بصمت…” تمتم لنفسه وهو يسير في الممرات المضاءة بمشاعل خافتة. “يبدو أن الأيام القادمة لن تكون هادئة على الإطلاق.”

 

في مكان آخر من القصر، في غرفة صغيرة بعيدة عن الأجنحة الملكية، كانت العمة أمينة جالسة بهدوء أمام شمعة تتراقص ألسنتها، تقلب صفحات كتاب قديم بنظرة غارقة في التفكير.

 

همست لنفسها، بابتسامة خفيفة: “إن كان كيوان يعتقد أن الانتظار سيكون في صالحه، فهو لا يعرفني بعد.”

 

أغلقت العمة أمينة الكتاب ببطء، وأطراف أصابعها تمر على الغلاف الجلدي المتهالك كما لو كانت تستعيد ذكريات قديمة محفورة في صفحاته. في ضوء الشمعة الخافت، انعكست ملامحها التي بدت هادئة، لكن عيناها حملتا شيئًا آخر… شيئًا يشبه السر الذي لم يحن وقت كشفه بعد.

 

“أوه، كيوان…” تمتمت بصوت بالكاد يُسمع، قبل أن تنهض من مكانها بخفة غير متوقعة لعجوز في مثل سنها. اقتربت من النافذة الصغيرة في غرفتها، وألقت نظرة على السماء السوداء الممتدة فوق مملكة أوغاديا. لم يكن هناك قمر، ولم تكن هناك نجوم… وكأن العالم نفسه يحبس أنفاسه انتظارًا لما سيأتي.

 

في الوقت ذاته…

 

في مكان آخر من القصر، في قبو لا يدخله سوى القليلين، كانت هناك شمعة أخرى تحترق ببطء، تلقي بظلال راقصة على الجدران الحجرية الرطبة. أمامها جلس رجل غريب المظهر، بمعطف طويل يغطي معظم جسده، وقبعة تخفي أغلب ملامحه.

 

“إذن… لقد بدأت العمة أمينة تحرك خيوطها.” جاءه صوت جاف من الظلام، لم يكن واضحًا إن كان لرجل أو امرأة.

 

الرجل رفع نظره ببطء، ثم ابتسم بسخرية. “أخبرتك أن الأمر مسألة وقت فقط.”

 

الصوت المجهول لم يرد، لكن الهواء في القبو أصبح أكثر برودة بشكل غير مبرر.

 

الرجل الغامض أشعل عود ثقاب جديد، محاولًا طرد الظلام المتزايد حوله، ثم قال بنبرة مسترخية مع قليل من القلق:

 

“اللعبة بدأت… والآن، لنرَ من سيفوز هذه المرة.”

 

الهواء البارد تسلل إلى القبو كما لو كان، يزحف في الظلام، يراقب بصمت. الرجل الجالس قرب الشمعة ألقى نظرة سريعة على الظل الذي تحرك عند المدخل، ثم عاد ينظر إلى اللهب المتراقص.

 

“أنت متأكد من أنها ما زالت تمتلكه؟” جاءه السؤال من الصوت الغامض.

 

الرجل لم يرفع رأسه هذه المرة، لكنه مرر إصبعه على حافة الطاولة الحجرية، مفكرًا. “لا أحد يعلم مكانه غيرها… وإن صدقت الشائعات، فهي لن تفرط فيه بسهولة.”

 

صمتٌ ثقيل ساد للحظات، قبل أن يأتي الرد بصوت منخفض كأن صاحبه يهمس في أذن الظلام نفسه:

 

“يجب أن نحصل عليه قبل أن يفعل هو.”

 

الرجل أخيرًا ابتسم، نظرة ساخرة ارتسمت على وجهه تحت الظلام الذي يخفي أغلب ملامحه. “هو؟ آه، لقد مضى وقت طويل على آخر مرة سمعنا فيها اسمه…”

 

الصوت الغامض لم يجب، لكنه ترك خلفه إحساسًا واضحًا… إحساسًا بأن هناك شيئًا قادمًا، شيئًا لن يتمكن أحد من إيقافه.

 

وفي مكان آخر من القصر، كانت العمة أمينة تتأمل القمر الذي بدأ أخيرًا بالظهور خلف الغيوم. نظرة غامضة لمعت في عينيها وهي تهمس لنفسها:

 

“بعض الأسرار يجب أن تبقى مدفونة

… إلى الأبد.”

***********

 

مقر الطبيبة الملكية – مملكة أوغاديا

 

كانت رائحة الأعشاب تعبق في المكان، بعضها مألوف وبعضها يهمس بلغاتٍ لا يفهمها إلا من عاش قرونًا. الزجاجات الصغيرة مصطفّة كأنها تعاويذ، والكتب القديمة متراكمة على الطاولة، تقلبها يدٌ خبيرة لا ترتجف أبدًا.

 

في هذا الركن المظلم من القصر، وقفت ميرتالا، الطبيبة الملكية التي لا يُعرف من أين جاءت ولا كيف تعلمت ما تعرفه. امرأة تثير الريبة بقدر ما تبعث الطمأنينة.

 

دقّ الباب بخفة.

 

– “ادخل.”

 

دخل شاهين، الحارس الملكي ذو النظرة الثاقبة والصمت الذي يتكلم أكثر من الكلمات. قال بهدوء مشوب بالقلق:

 

– “الملك يطلبك. الأمر يخص… العمة أمينة.”

 

رفعت ميرتالا رأسها ببطء، نظراتها رمادية كالسحاب:

 

– “ظهرت العلامة؟”

 

– “وأكثر. كانت تتحدث بلغة غير مفهومة… وذكرت اسمًا من عهد العروش الساقطة.”

 

صمتت لحظة، ثم قالت بصوتٍ خافت:

 

– “الأبواب القديمة بدأت تفتح.”

 

تقدم شاهين خطوة:

 

– “هل نخبره بما نعلم؟”

 

نظرت إليه طويلًا، ثم همست:

 

– “ليس الآن. الملك لا يحب الحكايات التي لا يستطيع إنهاءها.”

 

ثم التفتت نحو النافذة، تراقب المطر وهو يضرب الزجاج بصوتٍ خافت:

 

– “المطر في أوغاديا لا يأتي بلا لعنة، شاهين… وأعتقد أن اللعنة بدأت تستيقظ.”

 

فلاش باك: عهد السقوط

 

الصراخ كان يغمر السماء…

القلعة تشتعل، وسقفها يتهاوى تحت ضوء أرجواني غريب.

 

امرأة بثوبٍ ممزق تركض عبر ممرٍ ضيق، تحمل بين يديها كتابًا مغطى بالرماد والدم. كانت تهمس بلغة مفقودة، كأنها تحاول إنقاذ ما تبقى من سحرٍ محكوم عليه بالاختفاء.

 

وفي أحد الأركان المظلمة، وقفت فتاة صغيرة بشعرٍ اصفر طويل ونظرة شاردة. لم تبكِ، لم تهرب… فقط راقبت كل شيء بصمتٍ مرعب.

 

اقتربت المرأة منها، جثت على ركبتيها، وضعت يدها على جبينها وهمست:

 

– “الكل سينسى… لكنكِ لن تنسي، ميرتالا… دمكِ يعرف، حتى لو نكرتِ.”

 

صرخت السماء من فوقهم بصوتٍ هائل، ثم غمرهما ضوء أبيض…

 

سكن الضوء داخل عينيها لحظة، كأن الذكرى القديمة مرّت بها كريحٍ باردة، ثم اختفى كل شيء… وعادت الغرفة إلى صمتها الخافت.

 

رمشت ميرتالا ببطء، ثم قالت وكأنها تحدّث نفسها:

 

– “البوابة لم تُغلق تمامًا كما ظنوا… وما سُجن هناك، بدأ يتسلل من الشقوق.”

 

اقترب شاهين خطوة أخرى، عينيه الحادتين لم تفارقا وجهها:

 

– “هل تتحدثين عن العمة أمينة… أم عن شيء آخر؟”

 

نظرت إليه ميرتالا نظرة طويلة، ثم ابتسمت ابتسامة بالكاد تُرى:

 

– “العمة ليست إلا بداية، شاهين. العلامة التي ظهرت على جسدها… ليست من هذا الزمن. إنها توقيعٌ من عهدٍ مات، لكن رماده لم يُدفن بعد.”

 

صمت شاهين لبرهة، ثم قال:

 

– “هل أخبر الملك أنها ليست مريضة… بل مختارة؟”

 

هنا فقط تغير وجه ميرتالا، واختفى ما بقي من هدوئها، وقالت بصوتٍ خافت لكنه حاسم:

 

– “أخبره أنها تحتاج عزلة… وأن لا أحد يجب أن يقترب منها. لا خادم، لا طبيب، لا كاهن. وقل له إن الطبيبة الملكية ستعتني بها… وحدها.”

 

ثم أضافت بنبرة لا تحتمل الجدل:

 

– “ولا تذكر كلمة ‘مختارة’ أمامه مجددًا، إلا إن كنت تريد إشعال حربٍ لا تنتهي.”

 

أومأ شاهين، ثم غادر الغرفة بصمت، يترك خلفه رائحة الأعشاب وغموضًا بدأ ينسل من جدران المملكة كما ينسل الليل في العروق.

 

أما ميرتالا، فحدّقت في النار المشتعلة داخل الموقد، قبل أن تهمس بكلماتٍ بلغة ميتة، تُشبه الصلاة… أو اللعنة.

_____________________________________

 

كان السوق الشعبي في مملكة أوغاديا يعج بالحركة، أصوات الباعة تتعالى لعرض بضائعهم:

 

– “تفضلوا، تعاويذ الحظ النادرة!” – “لحوم تنين طازجة، لا تفوتوا الفرصة!” – “أحذية مصنوعة من جلد الغراب الليلي!”

 

وسط هذا الضجيج، كان لؤي يتجول وكأنّه طفل ضائع في سوق غريب، يتنقل بين الأكشاك بشغف. وبينما كان يتفحص إحدى العربات، لامست يداه فاكهة غريبة كانت معروضة.

 

– “ماذا هذه؟ تفاح يخرج منه دخان؟!” تمتم لؤي بدهشة، ثم مدّ يده لأخذ واحدة.

 

ما إن لامست يده الفاكهة، حتى بدأت تهتز، وفجأة انشقت، ليظهر منها مخلوق صغير بجناحين وأنياب.

 

صرخ البائع، محاولًا التراجع عن العربة:

 

– “أووووه لا! إنه بيضة أسد مجنح! هذا لا يبشر بالخير!”

 

في لحظة، انطلقت البيضة في السماء، وانفجرت في الهواء، ليظهر أسد مجنح ضخم وسط السوق، يهدر بصوت عميق، ملأ المكان:

 

– “من أيقظني من سباتي الأبدي؟!”

 

في لحظات معدودة، بدأ الناس يهرعون في كل اتجاه، يصرخون ويتدافعون في محاولة للهروب من الكارثة التي بدأت تتشكل أمام أعينهم. أما لؤي، فقد بقي في مكانه، مبهورًا بما يحدث:

 

– “أهذا أسد مجنح؟! هل هذا حقيقي؟!”

 

أطلق الأسد المجنح صرخة عالية، مما جعل السوق يهتز من شدة الصوت، بينما كان لؤي في حالة من الذهول التام، غير قادر على اتخاذ أي خطوة.

________________________

 

كادت نازلي أن تسحب يدها بسرعة، لكن شيئًا ما جعلها تتراجع لتكمل فك اللفافة. كان التمثال داخل الصندوق غريبًا ومثيرًا للدهشة. كان منحوتًا بدقة مذهلة، وبالرغم من قدمه، كان يلمع تحت الضوء الخافت كما لو كان جديدًا. تمثال مجنح، رأسه يشبه رأس أسد، وأجنحته العظيمة تغطي جسده. كان لونه أسود داكن، وعيناه اللامعتان كانتا تعكسان الضوء بشكل غير طبيعي، مما جعل نازلي تشعر بقلق متسارع.

 

سحبته من داخل الصندوق بحذر، وعينها تتفحص تفاصيل التمثال. الرسوم التي كانت على جسده كانت غريبة وغير مفهومة، وكأنها تمثل عوالم أخرى، أما النقوش الصغيرة فكانت تشبه رموزًا قديمة. كأنها تحتوي على أسرار لم تكن تعلم بوجودها. شعرها بدأ في التلبك، وكل خطوة قامت بها كانت تزداد فيها الرهبة.

 

“ايه دددده؟! ” همست لنفسها، محاولة تفسير ما كانت تراه.

 

لكن في اللحظة التي حملت فيها التمثال إلى مستوى عينيها، فاجأها شعور غريب. كان وكأن الهواء حولها بدأ يتغير. تراجعت خطوة للوراء وهي تشعر بشيء يشدها، وكأنها قد فتحت شيئًا لا ينبغي فتحه. الصوت الذي كان خافتًا في البداية أصبح واضحًا أكثر، همسات غامضة تتسرب من داخل التمثال، كلمات غير مفهومة.

 

“لقد فتحتي البوابة…” تردد الصوت في عقلها.

 

قفز قلب نازلي في صدرها، وعينيها اتسعتا في خوف. هذا الصوت لم يكن مجرد وهم في رأسها، بل كان حقيقيًا وكأن المخلوق المجنح في يدها بدأ ينطق.

 

“انت مين ؟” ساءلت نازلي نفسها بصوت منخفض، ولكن الإجابة جاءت فورًا.

 

“أنتِ من ستنقليننا إلى العالم الذي هجرناه.”

 

شعرت نازلي فجأة بيدها تنتفض. التمثال أصبح أكثر سخونة، وبدأ ينبعث منه ضوء خافت لكنه قوي، يزداد إشراقًا في الغرفة. لم تستطع تحديد إذا كانت هناك قوة ما تمسكها، أو ما إذا كان التمثال يتحكم في حركتها. أخذت تتنفس بصعوبة، بينما كان الصوت يتردد في أذنها وكأن أصداءه تتسرب إلى أعماقها.

 

“لن تعود الأمور كما كانت، نازلي.”

 

كانت الأنفاس تتسارع داخل صدرها، والفوضى التي اجتاحت عقليتها لم تترك لها مجالًا للتفكير. هل هذا مجرد هلوسة؟ أم أن ما يحدث هو شيء لا يمكن تفسيره؟

 

قبل أن تستوعب ما يحدث، أحست بشيء يتسرب من التمثال إلى داخل جسدها، شعور غريب بالبرودة الشديدة دخل قلبها مباشرة، وكأنها فقدت شيئًا غاليًا جدًا، وأصبح كل شيء في الكون مشوشًا في ذهنها. ولم يكن التمثال هو السبب الوحيد في هذا، بل كان هنالك شيء أعمق، شيء قديم ينبض داخلها.

 

“أنتِ البوابة… أفتحتيها…” همس الصوت، متسربًا إلى كل خلية في جسدها.

 

وبدون أن تدرك، شعرت بأن الزمن نفسه توقف للحظة.

______________________________________

 

فتح باب قاعة العرش فجأة، فدخل شاهين بخطوات سريعة، لكنه توقف عند منتصف القاعة، ثم وضع يده اليمنى على الجانب الأيمن من صدره وانحنى باحترام بالغ أمام الملك كيوان.

 

كان الملك جالسًا على عرشه، محاطًا بحاشيته، وعيناه تراقبان كل تفصيلة. حين رأى ملامح شاهين، أدرك أن هناك أمرًا جللًا.

 

– “تكلّم، شاهين، ما الأمر؟” قال الملك بنبرة حادة يخفي خلفها توتر من مظهر شاهين.

 

رفع شاهين رأسه ببطء، وحاول ان يجعل صوته يخرج طبيعيا، لكنه خرج متوترا ومتحجرج.

 

– “مولاي… تم إطلاق راغنور. السوق في حالة فوضى، والناس يفرّون في كل اتجاه.”

 

شهق أحد المستشارين، وهمس آخر باسمه في رعب، لكن الملك ظل صامتًا لثوانٍ، وقد شحب وجهه فجأة. اتسعت عيناه في صدمة حقيقية.

 

– “راغنور؟!” همس الملك بصدمة، ثم نهض من عرشه ببطء، كمن لا يريد تصديق ما سمعه. “لكن… هذا مستحيل… راغنور مجرد أسطورة!”

 

– “كنا نظن ذلك يا مولاي…” قال شاهين، ثم تابع: “لكنه حقيقي… وقد تم إيقاظه اليوم.”

 

الملك كيوان مرر يده المرتجفة على جبهته، محاولًا أن يتمالك نفسه، ثم استدار بحدة نحو شاهين قائلا بغضب مبطن:

 

– “من؟ من فعل هذا؟”

 

تردد شاهين للحظة، ثم قال بنبرة حذرة:

 

– “لؤي، مولاي.”

 

الملك نظر إليه بدهشة ممزوجة بعدم التصديق، وكأن اسمه وحده أشعل داخله ألف سؤال ولكن لم الدهشة؟!! فمن فهذه المملكة يمكن أن يفتعل كوارث من هذا النوع غير ذلك اللؤي:

 

– “لؤي؟! لؤي هو من فعلها؟!”

 

– “نعم، مولاي… حسب شهود عيان، لم يكن يقصد ذلك. يبدو أنه أطلق المخلوق دون أن يدرك ما يفعله. لا أحد يعلم كيف حدث الأمر تحديدًا… لكن راغنور استيقظ، وها هو الآن يعيث في السوق فوضى.”

 

الملك أدار وجهه ببطء، وحدّق في الفراغ. قلبه يضرب بقوة، فـ راغنور لم يكن مخلوقًا عاديًا. إنه كابوس قديم… قصة كانوا يروونها في طفولته، قصة عن كائن لا يُقهَر، لا يُروض، ولا يُوقَف.

 

تمالك نفسه فجأة، وعاد يتكلم بنبرة قيادية:

 

– “أرسلوا فرقة خاصة فورًا. أريد أن يُطوّق السوق بالكامل. لا أريد أي محاولة للهجوم عليه دون خطة واضحة. وقبل كل شيء… أحضروا لؤي. فورًا.”

 

– “أمرك مولاي.” قال شاهين، وانحنى مرة أخرى، ثم خرج مسرعًا ينفذ الأوامر.

 

وقف الملك وحده في القاعة، وصدى اسمه يتردد في أعماقه: لؤي…

 

هو يعلم أن مجرد ذكر اسم لؤي فاي مكان هذا لا يدل على شئ سوي كارثه عظيمة!!

_________________

 

أطلق الأسد المجنّح صرخة مدوّية ثانية، زلزلت السوق بأكمله، وارتجّت لها الأرض تحت أقدام لؤي. الناس يصرخون، يركضون بجنون، وبعضهم يُسقط بضاعته، بينما تُقلع العرَبات من أماكنها كأن زلزالًا ضرب السوق. أمّا لؤي، فكان لا يزال واقفًا في مكانه، مشدوها، وكأنّه يقرا مشهد من قصة خيالية.

 

– “يا الله… هل أنا في حلم؟ أم أنّني ابتلعت شيئًا غريبًا على الفطور؟” تمتم وهو يتراجع خطوة.

 

نظر إلى الأسد المجنّح الذي راح يرفرف بجناحيه العريضين، وصوته يهدر كالرعد، ثم قال لؤي وهو يضع يده على رأسه:

 

– “واللهِ إني لم أتعمد إيقاظك! أقسم أنّي كنت أظنها تفاحة… تفاحة يا رجل! منذ متى تفقس التفاح عن مخلوقات أسطورية؟!”

 

ثم التفت إلى أحد الباعة المذهولين وسأله بصوت مرتجف:

 

– “هل هذا… طبيعي؟ أعني، هل يحدث هذا كثيرًا هنا؟!”

 

رد البائع بخوف وصوت مرتعش وهو يحاول الزحف بعيدًا:

 

– “إنه راغنور… المخلوق الذي يُقال إنه أُحكمت عليه لعنة النوم الأبدي منذ آلاف السنين… لا أحد صدّق أنه حقيقي حتى اليوم!”

 

شهق لؤي وغمغم:

 

– “وها أنا أيقظته… بتفاحة مشتعلة! أهذا هو قدري؟! لؤي، أيها الأحمق، ألم يكن من الأفضل شراء عصير بارد والجلوس بهدوء؟!”

 

فجأة، أخذ الأسد يحوم فوق السوق، ينظر بعينيه المتوهجتين إلى الأسفل، وكأنّه يبحث عن من تسبّب في إيقاظه. انكمش لؤي خلف عربة خشبية وبدأ يتمتم:

 

– “يا رب، اجعلني غير مرئي، أو حتى جرادة صغيرة… لا بل ذبابة! المهم ألّا يجدني!”

 

لكن في داخله، بدأ شعور غريب بالتكوّن. إحساس لم يعرفه من قبل… خليط من الخوف، والذنب، وشيء آخر أعمق، وكأن شيئًا ما في داخله استُفزّ بظهور هذا المخلوق.

 

رفع عينيه ببطء نحو السماء وهمس:

 

– “لماذا أشعر أنّ هذا المخلوق… يعرفني؟”

 

في تلك اللحظة، كان الأسد المجنّح يحوم في السماء، صوته المدوي يملأ الأفق، والجميع يركضون بأقصى سرعة للهروب من غضب المخلوق. أما لؤي، فقد اختبأ خلف عربة خشبية، يترقب بحذر، كما لو كان ينتظر أن تتفجر الكارثة في أي لحظة. لكنه في داخله كان يشعر بشيء غريب، مزيج من الخوف والفضول.

 

“هل هذا… يعرفني؟” همس لؤي، بينما كان يحدق في السماء.

 

ورغم كل شيء، لم يستطع أن يمنع نفسه من الشعور بشيء غريب داخل قلبه، كأن هناك رابطًا بينه وبين هذا المخلوق. لكن كان الوقت قد تأخر على التأمل في هذه الأفكار، فقد بدأ الأسد المجنّح يهبط تدريجيًا، وجناحيه العريضين يخلّفان صوتًا قويًا في الهواء، وكأن الأرض كلها تعيد صدى هدره.

 

في تلك اللحظة، ظهر إياد قائد الحراس، ومعه مجموعة من الفرسان المدججين بالسيوف والدروع، قادمين بسرعة نحو المخلوق الأسطوري. كانوا مستعدين لملاقاة الخطر بكل شجاعة، لكنهم لم يتوقعوا أن يجدوا هذا الوحش الهائل في هذا السوق المزدحم.

 

– “ابتعدوا عنه!” صرخ إياد بحزم، وكان واضحًا عليه القلق. “لا تقتربوا من لؤي، هو ليس السبب في ذلك! هذا المخلوق أُيقظ بسبب قوة غير متوقعة!”

 

لكن الأسد المجنّح لم يهتم بكلماتهم، بل تحول فجأة إلى كرة نارية من الغضب، واندفع نحوهم بقوة، يهاجمهم بأجنحته المدمرة، مما جعل الفرسان يتناثرون على الأرض في لحظة.

 

وفي تلك اللحظة، صرخ لؤي من خلف العربة وهو يحاول أن يفهم الوضع:

 

– “إياد؟! هل انت متأكد أنك تريد محاربةالأسد المجنّح؟ هذا ليس مجرد حيوان، يمكنه ان يدمر المملكة!”

 

لكن إياد كان قد بدأ بالفعل في قيادة المجموعة، محاولًا السيطرة على الموقف. وكان يصرخ في الجنود:

 

– “ابقوا متماسكين! لا تتركوا المخلوق يقترب أكثر!”

 

ثم التفت إلى لؤي وقال بحزم: “أنت يا لؤي! حان الوقت لتواجه ما فعلته! أنت من أطلقت هذا المخلوق إلى هذا العالم!”

 

لؤي، الذي كان لا يزال في حالة من الذهول، قال بتهكم بينما كان يحاول الابتعاد عن العربة:

 

– “وأنا قلت لك إني كنت جائع! ماذا تريدني ان أقول لك إني السبب؟ قسماً بالله، لو كنت أعرف إنه سوف يظهر أسد مجنح من التفاحة، كنت طلبت عصير بدلًا من ذلك.

 

كان المخلوق يحوم في السماء الآن، يزمجر بشراسة، بينما لؤي يتراجع أكثر، يحاول أن يهرب من هذا المأزق الذي وقع فيه بغير قصد. ولكن في هذه اللحظة، شعر بشيء غريب… لم يكن الخوف فقط، بل كان هناك شعور غريب بالنظرة تجاهه من هذا المخلوق، وكأنّهما على تواصل ما.

 

رفع رأسه إلى السماء وهمس لنفسه:

 

– “هل… هل يمكن أن يكون بيننا ارتباط ما؟”

 

لكن قبل أن يواصل

التفكير، كان المخلوق قد اقترب منه، وحينما نظر في عينيه المتوهجتين، شعر بشيء عميق في داخله يتغير. وكأن شيئًا ما قد استجاب لوجوده.

 

وما إن اقترب الأسد المجنح منه أكثر، حتى فجأة… بدأ المخلوق يهدأ.

 

#الكاتبة_دينا_الحمزاوي

#رواية_مملكة_اوغاديا

 

 

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *